يجزم الكثير من المتخاصمين أن الرجوع للحق فضيلة، ومع ذلك يعتقدون أن اللجوء للمحاكم لاستعادة الحق، ربما ليس بالفكرة الصائبة. يقولون عبر المنتديات والصحف اليومية ووسائل الإعلام المختلفة إن التقاضي في المملكة، المستمد من الشريعة الإسلامية لا يشوبه الكثير من السلبيات باستثناء المواعيد المترامية الأطراف؛ لاستعادة الحق المسلوب، أو إنصاف المظلومين من بطش الجائرين، أو تعزير المجرمين ليتعظ الباقون، أو استرداد الأموال ليعيش الصغار من الأرامل والمحتاجين. ويقولون إن القضاء يسرع في مناطق، ويتلكأ في أخرى، ويأخذ المسار الخاطئ في بعضها، ويقفز إلى حد الإعجاب في مدينة ما، ويتراجع إلى محور الصفر من المنظور الشخصي في مدينة أخرى. ويقولون إن القضاء السعودي، كان يشكو من قلة الأموال؛ فخصص لهم ولاة الأمر ما يمكن أن يسد نقص المحاكم، بميزانية إصحاح بلغت سبعة مليارات ريال؛ فلماذا التأخير في البت؟ لا في القضايا، بل في تسريع العمل لاستعادة الهيكلة الإدارية، وتوفير ما يمكن أن يجعل كلمة الحق تعلو في زمن وجيز. ورغم أن بعض التصريحات الرسمية، تخالف بالطبع ما يقال، وتصفها ب «الشائعات» غير المستندة إلى دلائل، ضاربة المثل بحجم الإنجازات المحققة في عام أو آخر، فيما تعزو تصريحات أخرى بعض الخلل في نقص الأراضي، وليس في قلة عدد القضاة، وذلك حسب آخر تصريحات أعلنها وزير العدل، و أشار فيها إلى أن «المشكلة بوجه عام عالمية، وفي المملكة يكمن بعض أسبابها في ضعف تأهيل المكتب القضائي، وهو ما أظهرته إحدى الدراسات التي أجرتها الوزارة، ورغم ذلك فإن معدل توفر القضاة في القضايا بالمملكة يفوق المعدل العالمي، وأن من الأسباب كذلك تكليف القضاة بالقيام ببعض الأعمال التي يفترض أن يقوم بها المكتب القضائي وليس القاضي المكلف بالفصل في القضايا؛ ولذلك فإن هناك حاجة إلى دراسة أسباب تأخر النظر في القضايا بالمحاكم». إلا أن الأرقام والإحصاءات الرسمية تخالف ما يقال في بعض الأحيان، حيث نشرت وزارة العدل في تقريرها الإحصائي السنوي لعام 1429ه أن «أدنى معدل للقضاة كان في المنطقة الشرقية، حيث بلغ معدل 2.1 % لكل 100 ألف نسمة، فيما أدنى معدل للأعمال في المنطقة الشرقية، بلغ 24 عملا لكل 1000 شخص، وبلغ أقل عدد للقضايا المنتهية في الجوف بنحو 5565 قضية بنسبة 1.6 % من إجمالي القضايا في ذلك العام، وبلغ أعلى معدل لمتوسط القضايا لدى القاضي 678 قضية في الحدود الشمالية». لكن إحصاءات أخرى تبرهن على صدق ما توصل إليه المسؤولون في الوزارة، خاصة المتعلقة بتولي بعض القضاة قضايا لا يفترض أن يقوموا بها، حيث أشارت إلى أنه تم إعادة 90195 قضية لعدم الاختصاص، وشطب 31414 قضية؛ ما يعني أن الإجمالي يصل إلى 121609 أعمال، تشكل نسبة 15.5 % من إجمالي أعمال القضاة بالمملكة في عام 1429ه «781917 قضية»، ليدلل ذلك على أن القضاة ينشغلون بنحو كبير بقضايا مصيرها إما عدم الاختصاص أو الشطب. جلستان سنويا ولأن تطوير القضاء يعني تخفيف الضغط على بعض القضاة، ما يسارع في دراسة وافية لعدد من القضايا الشائكة، فإن المحامي سعود إبراهيم آل طالب، اعتبر الوزارة ملزمة بضخ الحلول السريعة في دعم توجهات ولاة الأمر في تطوير القضاء: «من الحلول المؤقتة التي تساعد على تعجيل البت في القضايا مثلا استئجار المباني، وتقسيمها على محكمة تجارية وشخصية ومرورية وعمالية، وإعادة تأهيل المستشارين مثلا في وزارة التجارة من الناحية الشرعية بدورات مع القضاة، فالمبالغ المرصودة تعد نقلة في وضع حلول دائمة في ملف القضاء السعودي». ويكشف أن «أقل موعد يؤخذ من قبل المحكمة في تقديم دعوة يصل إلى ستة أشهر، أي موعدين في العام؛ لذا فإن هناك العديد من الأمور المترتبة على نقص القضاة، حيث إن من المفترض أن يباشر القاضي من ست إلى ثماني قضايا في اليوم، والذي يحدث هو أن القاضي يباشر نحو 14 قضية؛ ما يمثل جهدا كبيرا على القاضي، على الرغم من أن بعضهم يكلف بأعمال كبيرة تشغله عن الفصل في القضايا، وهناك عدد كبير من القضاة يعملون في وظائف إدارية؛ ما ينعكس على تأخير آلاف القضايا». ظاهرة غريبة ويتناول القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي محمد الجذلاني، ما يعتبرها ظاهرة مقلقة تتناقض تماما مع ما يفترض القيام به؛ لتخفيف أثر نقص القضاة في إنجاز القضايا المنظورة، سواء من حيث الكم أو الكيف، وهو الأهم، «وهذه الظاهرة غير الحميدة تتمثل في صورتين سلبيتين من الممارسات التي أعتقد خطأها الكبير ومجانبتها للمصلحة, وهاتان السلبيتان هما تفريغ أعداد من القضاة من العمل القضائي الأصيل وهو التصدي للفصل في الخصومات وإصدار الأحكام إلى أعمال إدارية بحتة يمكن لأي موظف متخصص مؤهل القيام بها، وتكليف القضاة دون تفريغهم لممارسة أعمال ذات صبغة إدارية بحتة تزاحم عملهم القضائي الأصيل وتؤثر في مستوى إنجازهم وفي تفرغهم لدراسة القضايا، وتأمل الدعاوى والوصول لأحكام عادلة لها». وأشار إلى أن هذه السلبية الموجودة بشكل لافت ومقلق سواء في ديوان وزارة العدل، أو في ديوان المظالم أو في المجلس الأعلى للقضاء أو في المحاكم على عمومها، «كل ذلك له أثره السيئ جدا في إنجاز القضايا الذي يشتكي الناس من ضعفه وبطئه، ويتناقض تماما مع قناعة القائمين على القضاء بمشكلة نقص القضاة التي بدلا من سعيهم الجاد لاتخاذ كافة الوسائل لتخفيف أثرها, فإنهم يعمدون إلى زيادة إنقاص القضاة، عبر تفريغ نسبة مؤثرة منهم للقيام بأعمال إدارية بحتة، وهذه مشكلة تحتاج إلى تفسير مقنع لأسبابها ومبرراتها، وإلا فإن ظاهرها الخطأ البين غير المبرر، ومن أكثر الأمور إثارة للعجب والدهشة أن تعمد بعض الجهات القضائية إلى توجيه القضاة وتكليفهم بالعمل في إدارات لا تمت بصلة لتخصصهم الشرعي وتأهيلهم القضائي، ولا إلى اختصاصهم الأصيل، كأن يكون القاضي مفرغا من عمله القضائي للإشراف على إدارة العلاقات العامة، أو إدارة الحاسب الآلي، أو إدارات أخرى بعضها محدثة تقوم بأعمال شؤون الموظفين والإدارة المالية، وغير ذلك من الصور العجيبة الغريبة، وهذا ما يحدث بالضبط في ديوان المظالم الذي أمسك القضاة فيه بزمام جميع الإدارات وفرغوا من عملهم القضائي للقيام بأعمال تلك الإدارات، وكأن هناك هدفا مرسوما يسعى لتحقيقه، يتمثل في مشيخة جميع الإدارات دون مراعاة للنقص الكبير في عدد القضاة، ولا لمسألة التخصص التي يجب أن تحكم تعيين أي موظف، بحيث لا يسند العمل إلا للمتخصص فيه، وإلا فإن هذه تعتبر إحدى صور تعطيل الطاقات المتخصصة وتؤدي لتعطيل الفريقين سواء فريق القضاة، أو فريق الإداريين المتخصصين، إضافة إلى ما يقود إليه هذا الأمر من إيجاد حالة من الإحباط وقتل روح التميز والابتكار والمثابرة في الموظفين الأكفاء الذين كانوا يقومون بهذه الأعمال بروح عالية ومهنية كبيرة؛ ليجدوا أنفسهم وضعوا في خانة التهميش والإلغاء بدلا من التكريم والشكر». نموذج التفريغ ويضرب الجذلاني مثلا بالتفريغ الخاطئ، «كالنموذج الذي جرى في ديوان المظالم من تكليف وتفريغ أعداد كبيرة من القضاة للقيام بإجراءات مقابلة الموظفين المتقدمين لشغل الوظائف الإدارية، التي أقيمت قبل أربعة أعوام في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث جرى تفريغ عشرات القضاة ونزعهم من دوائرهم وتكليفهم بالدوام اليومي في جامعة الإمام لإجراء هذه المقابلات، لما لذلك من تأثير سلبي في إنجاز القضايا، حتى وصل الحال إلى مشاركة بعض قضاة الاستئناف في إجراء المقابلات مع المتقدمين لشغل الوظائف الإدارية ذات المراتب البسيطة من الرابعة والخامسة وما يقاربهما، فإذا كان الديوان لا يمتلك الكوادر الكافية للقيام بمثل هذه الإجراءات الخاصة بشغل وظائفه الإدارية، فلماذا لا يعيد الأمر إلى الجهة المختصة به أصلا وهي وزارة الخدمة المدنية للقيام به، ولو بمشاركة من بعض موظفي الديوان بدلا من تفريغ القضاة للقيام بهذه المهمة التي استغرقت مدة طويلة، لما انطوت عليه هذه الإجراءات من مراحل متعددة ومعقدة جدا وغير مسبوقة لاختيار هؤلاء الموظفين، ومع أنني لم أطلع على المعايير ولا الخطوات التي اعتمدها الديوان لاختيار الموظفين، إلا أنها كانت حديث الجميع، لما انطوت عليه من غرابة وتشدد غير مفهومين لاختيار من يشغل وظائف بسيطة محددة المعايير والشروط، سواء في أنظمة ولوائح الخدمة المدنية، أو فيما جرى عليه العمل في سائر الوزارات والدوائر الحكومية ومنها الجهات القضائية قديما وحديثا». وبين القاضي السابق أن من أسوأ صور إشغال القضاة بأعمال إدارية تمنعهم من إنجاز قضاياهم، ما يجري بشكل مزعج من مطالبتهم بإعداد وكتابة الإحصاءات والمعلومات والبيانات الخاصة بالقضايا والأحكام, أو كتابة الإفادات التي تطلب منهم عن بعض القضايا؛ ما يستغرق وقتا كبيرا كان الأولى صرفه للعمل الأصيل حتى نخفف من حدة نقص القضاة ونساعد القاضي على التفرغ التام لعمله، «ومن المفارقات العجيبة أن يجتمع على القاضي إشغاله بمثل هذه الأعمال، ثم مطالبته بالإنجاز ومساءلته عن التأخير الحاصل في بعض القضايا، فهذا لا يتأتى ولا يتفق مع أية معايير أو مع العقل». وتأسف من أن يتم تعطيل شباب الوطن من فرص العمل التي في صلة تخصصهم الإداري وتعطيل طاقاتهم وإسلام قيادة إداراتهم التي كانوا هم أولى بها، والتي عملوا فيها بكل جد وإخلاص فترة من الزمن إلى أصحاب الفضيلة القضاة، الذين ما عينوا إلا من أجل القيام بأعباء وظيفة القضاء الشاقة؛ ما أدى إلى تسرب الكفء منهم وتعطيل غيره، وهذا يلقي بظلاله على جودة الأداء في تلك الإدارات». وأشار الجذلاني إلى أنه لم يكن هناك تأهيل في إعداده: «أول قضية تسلمتها كانت في الفصل في معاملات تجارية، ولم أعلم شيئا لا من قريب ولا من بعيد عن طريقة الحكم في القضية» .