ثمة ظاهرة غريبة لا تظهر إلا في دول العالم الثالث، ودولنا العربية على وجه التحديد! ففيها تستطيع أن تجد شخصا موهوبا في كل شيء! تجده تاجرا، خيّالا، قناصا، شاعرا، رساما، كاتبا، مثقفا، مفكرا ومسؤولا كبيرا في الوقت ذاته! ثم بعد كل هذه النعم الظاهرة والباطنة وما خفي أعظم تجده يصوّر نفسه على أنه إنسان بسيط، وربما زعم أنه فقير.! في الصيف، وعند الساعة الواحدة ظهرا، كانت درجة الحرارة تناهز ال«50» درجة مئوية، وكنت أقف أمام إحدى الإشارات المرورية أنتظر اخضرارها بفارغ الصبر ونفحات «المكيف» الرقراقة تداعبني، عندها كانت تطرق نافذة السيارة سيدة مسنة، وكانت تطلب الحديث معي، فقلت لها من خلف الزجاج «على الله». والتفت أمامي! فطرقت الزجاج ثانية وطلبت الحديث معي مرة أخرى، عندها فتحت النافذة، فبادرتني بهذا الطلب المفجع «أريد ماء»، وكانت تشير بأناملها المتصدعة إلى قارورة ماء كانت مرمية في سيارتي، فأخبرتها بأنها ساخنة جدا وقد أبرحتها أشعة الشمس ضربا أياما عديدة! فقالت «أعطني الماء». وفي الصيدلية تم القبض على مواطن متلبسا بالسرقة، ولكن سرقة ماذا؟ كان يسرق «حليب أطفال»! ترى، أين يكمن الألم الحقيقي؟ عندما تشاهد أطفالك يصرخون جوعا وتتقاطر دموعهم وأنت لا تملك ما تسد به رمقهم؟ أم عندما تهرع إلى صيدلية لتسرق منها حليبا لأطفالك فيتم القبض عليك وإهانتك وتصويرك وفضحك على رؤوس الأشهاد؟ أم عندما تمد يدك إلى المجتمع والجمعيات الخيرية والدولة والمسؤولين على شاشات التلفاز لتطلب منهم أن يتصدقوا عليك ولو ب«لحم حمار» لتطبخه لثلة من الأيتام والفقراء الذين ينامون في الصيف الساخن بلا «مكيف» ولا ماء ولا كهرباء ولا حتى «لحم حمار». كانت تقفز إلى ذهني كثيرا قصة عُمَر والمرأة الفقيرة التي أوهمت أطفالها الجياع بأنها تطبخ لهم العشاء ليناموا على وقع الوهم! وكان يؤلمني كثيرا كيف تردت بنا الأحوال بين موقف عمر رضي الله عنه مع المرأة الفقيرة، والفقراء الذين يجوبون شوارعنا صباح مساء وقليلا ما نلتفت إليهم، يسرقون حليبا للأطفال، أو يشربون ماء ملتهبا تحت أشعة الشمس الحارقة! أو يحلمون حتى ب «لحم حمار»، وأولئك التجار الموهوبون الذين تتكدس في أرصدتهم الملايين ثم يزعمون أنهم فقراء! هل في هذا ما يفضي حقا إلى نتيجة قاسية؟ إن معظم هؤلاء المترفين لا يعرفون شيئا عن الفقر سوى اسمه! لا يعرفون كيف يهين الفقر أصحابه! كيف يكسر أنفسهم، وكيف تتحطم على صخرته آمالهم وأحلاهم! وكيف تهدر كرامة شيخ جليل، وتتناثر دموعه وهو يستجدي لقمة يضعها في فم أطفاله! وكيف بعد كل هذا يأتي من يحسد الفقراء على أخص خصوصياتهم وهي آلام الفقر ليتاجر بها زورا ويزعم بأنه فقير! أكاد أجزم لو أن «الست» سمعت بهؤلاء لكانت تغني على أنغام العدم المأساوية وترف الأحلام المخملية، كلمات ليست كالكلمات: «فقر إيه اللي انت جاي تئول عليه؟ / إنت عارف قبله معنى الفقر إيه؟ إنت فين والفقر فين؟» منتديات الساخر: منصور القحطاني