حين قرأت ديوان الشاعر عبدالرحمن بارود وجدتني أتجاوز قصائد الديوان الأولى بسرعة.. وكأنني أبحث عن شيء مفقود.. أو أريد أن أتجاوز شيئا من الخيبة. عادة الشاعر في قصائده الأولى أيام الطفولة والصبا وبداية التكوين تكون تجاربه الشعرية ضعيفة، وهكذا هي القصائد الأولى في الديوان يغلب عليها الإنشاء والتقرير والمباشرة، وهي بعيدة عن الخيال الشعري، وعن روح الرمزية والإشراق التي تميز بها الشاعر بعد ذلك. حتى إنني تعجبت من شاعر هذه بداياته كيف وصل إلى تلك اللغة الشعرية الفخمة والسبك المحكم ولعل هذا مصداق قولهم «من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة» أو قول بعض عامتنا «الصنعة عورة حتى تكتمل».. لقد اكتملت روح الشاعر وآتت أكلها ضعفين بعد أن أصابها وابل المعرفة الغنية والتجربة الإنسانية وأعطت الزمن حقه. هل كان الأجدر بطابعي الديوان أن يؤخروا قصائده القديمة وألا يلتزموا بالسياق التاريخي؟ أم أن هذا من مقتضى التسلسل وقد أوصى به الشاعر أو أشرف عليه؟ وهل يمكن أن تنتخب قصائده الجميلة المعبرة التي تحتوي -أحيانا- على روح ملحمية رائعة.. لتكون ديوانا مستقلا، كما كان الشاعر ينوي حين كتب بعض قصائده بخط يده الجميل ووضع حولها زخرفات ورسومات تنم عن ذوق فني رائع. إن مثل هذا الديوان سيضمن للشاعر انتشارا غير عادي يفوق كثيرا السفر الضخم الذي يحوي معظم أعمال الشاعر بقديمها وحديثها وجيدها ورديئها. إلى جوار مجلة الشهاب كنت أقرأ بعض قصائده في مجلة المجتمع الكويتية وحفظت منها (غريب الديار) وهي في الديوان (ص122): يرحل الموت يا خدود الورود وتدب الحياة في كل عود ولجين الأنهار يجري مرايا وأريج التفاح ذو تغريد وحبيبي يطل من قمم الخل د على موكب الصباح الجديد .. وفي مجلة (الوعي الإسلامي) التي تصدرها وزارة الأوقاف الكويتية قرأت للشاعر قصيدة (مرارة وحرقة) وهي في الديوان (ص92) ومطلعها: ادفني قتلاك وارضيْ بالمصيبة واذهبي عاصفة الليل غريبة واقبعي حول الضحايا واذكري عمرا مرا وأوطانا سليبة وادخلي السجن الذي شيّدْتِه وتوارَىْ في الزنازين العصيبة واغرقي في لجة مجنونة يا شعوبا لم تعلمها المصيبة! كان -رحمه الله- في حالة ثورة عاصفة متصلة بهزيمة أو نكبة يصرخ الناس فيها ملء حلوقهم. ومعظم القصائد الملهمة المطبوعة في هذه الأعمال الكاملة كانت ضمن الدفتر الخاص الذي كتبته من مجلة الشهاب ومصادر أخرى، وهي موجودة في أعداد تلك المجلة اللبنانية الغنية وبينها اختلاف مع ما هو مثبت في الديوان بحيث يمكن اعتمادها كنسخة أخرى أو تصويب الخطأ أو إكمال النقص منها.. مثلا: قصيدة (الأغاريد) في الأعمال الكاملة (ص100) استغلقت بعض كلماتها على المشرفين بسبب التصحيف واجتهدوا في التصويب وإن صح لي أن أستدرك عليهم من حفظي فالصواب هكذا.. بلي الحديد ومسنا القرح فمتى (تفيق) أخي متى تصحو؟ والوعتاه! كم انقضت حقبٌ وامتد ليل ما له صبح وبغى وحوش ليس يردعهم خلق ولا دين ولا نصح ألفاظهم مطليّة عسلا وقلوبهم (بسمومها) رشح والكلمة بين القوسين في الديوان مطموسة. والوحش وحشٌ دينه فمه (والغدر) لا يمحوه من يمحو والكلمة في الديوان مطموسة فليحصد الأحقاد زارعها (يا ويله) يا ويل ما حصدا وفي الديوان «يا ويلة» وأضمّ قرآني إلى قلبي وأقول أنت (أخي وأنت) أبي وهي في الديوان مطموسة وطني فسيح لا (حدود) له كالشمس (تملأ هذه الدنيا) و(حدود) تصحفت إلى (جدود) أنا في ركاب محمدٍ أمضي والجاهلية (تحت نعليّا) وفي الديوان تبديل لمواضع الكلمات تحيل معه المعنى. (اصبر) تلح راياته ومع الص ومال والسودان نيجيريا (اصبر) في الديوان تحرفت إلى: (أصير) . يا ريح يا قيثارة (الأزمان) دوما تسير تطوف بالبلدان وهي في الديوان مطموسة. وآخر بيت أحفظه هكذا: (وتهب زنبقة) مغردة بدأت تهل طلائع الإيمان وهي في الديوان مطموسة. ولست أدري هل سر إعجابي بقصائده التي جاءت في وسط الديوان دون أوله وآخره راجع إلى نفسية الشاب الذي كان يتلقاها ويتحمس لها وينفعل معها، أم أن الشاعر ذاته ضعف نفسه الشعري بعد استقراره وعمل الزمن عمله فغلب على قصائده المتأخرة شعر المناسبات أو الشعر العلمي. أيا ما يكن، فللشاعر نفس إبداعي محلق وشكرا لجهود الإخوة الذين أصدروا الديوان بمناسبة (القدس عاصمة الثقافة العربية)، ورحم الله الشاعر ونرجو أن نظفر بطبعة جديدة تنسينا في جمالها جمال سابقتها.