الفتى من حتفه لا يفر قدر قد خط والخلق ذر المليك قال كونوا فكانوا ما لحي بعد نهي وأمر هم كما يشاء في إصبعيه جحدوه كلهم أو أقروا في غد يهيب بالعيس حاد والجنى يطيح حلو ومر وتدك الأرض دكا وكل من بنيه وأخيه يفر فكلا الحزبين يسعى لدار ماله في غيرها مستقر تذكرت هذه الأبيات التي حفظتها ضمن قصيدة طويلة وأنا أسمع خبر رحيل الشاعر الفلسطيني المبدع «عبد الرحمن البارود» في مدينة جدة بتاريخ 3/5/1431ه . عرفته في طفولتي يوم كانت الذاكرة متوقدة متوفزة متحفزة، وكنت أحفظ كل ما وقعت عليه يدي من جيد الشعر ورديئه. وجدت في المكتبة مجلة اسمها «الشهاب» تصدر من بيروت، وفيها صفحة للأدب والشعر فشدتني، وأجمل ما حفظت منها قصائد للدكتور عبد الرحمن بارود وجمعت هذه القصائد بخط يدي في المرحلة الثانوية في دفتر هو أغلى عندي من سائر الممتلكات.. وا أسفاه .. لقد ضاع دفتري في غمرة أحداث الحرم بسبب خوف أمي علي! ويا للعجب فقد علمت بعد ذلك أن جزءا عزيزا من ديوان الشاعر ضاع ضمن حملة أمنية في مصر صودرت فيها بعض ممتلكاته وأوراقه ! استودع العلم قرطاسا فضيعه *** وبئس مستودع العلم القراطيس لكن بقي في الذاكرة الشيء الكثير بحمد الله. وحين استشهدت بأبيات له كان كل من سمعها يسأل عنها وهي ضمن قصيدة مطلعها : أبطئي السير يا بقايا السحاب صوحت أرضنا من الإجداب والظما في عيوننا هائل قاس وصوت الفضاء سأمان كابي ... وفي طياتها : بودادي عليك .. هون عليك الأمر لابد من زوال المصاب سوف يصفو لك الزمان وتأتيك ظعون الأحبة الغياب وليالي الأحزان ترحل فالأحزان مثل المسافر الجواب. وحين اختارها فريق العمل لتكون ضمن شارة برنامج «حجر الزاوية» لهذا العام (1431ه) كانت تكرر يوميا طيلة شهر رمضان مما حدا بالعديد من الإخوة والأخوات أن يسألوني عنها، فتذكرت الشاعر وقصائده الطوال ومعانيه الجميلة التي غرست في نفسي حب الشعر وحب فلسطين معا، ووعدت وفاء لذكرى الشاعر أن أقوم بجمع ديوانه وأنا قد شرعت في ذلك فعلا. ولازلت أتذكر يوم زارني في بيتي بالقصيم وقد جلله الشيب وزاده حماسا وصبرا وحين سألته عن (حماس) التي لا يخفي ولاءه وحبه لها ابتهج وأشاد، وحين استفهمت عن وجود قيادة بديلة في حال غاب الشيخ أحمد ياسين زجرني ونهرني .. وكأنه يقول : هذه أسرار لا يجب أن يسأل عنها أحد. كان كالذي يحتفظ بدرة ثمينة نفيسة هي كل ما يملكه من هذه الدنيا. لقد كان شعره تبشيرا بالنصر وتصبيرا للمحرومين والمشردين والمبعدين.. وحين بزغت الانتفاضة ثم المقاومة كانت هي حلمه الموعود .. فأخلص لها وتغنى بها. لم يكن بين إعلاني عن النية في جمع الديوان وبين حصولي على نسخة من هذا الديوان ذاته سوى أربع وعشرين ساعة. لقد سمع ابني الكريم (بكر عودة) مقالتي فبادرني بنسخة من ديوان تحت عنوان «الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الدكتور عبد الرحمن بارود» . أشرف على إعداده وطباعته كل من : أ. إسماعيل سليم البرعصي د. أسامة جمعة الأشقر أ. بكر إسماعيل الخالدي فرحت بالديوان فرحي بغائب يقدم علي بعد فراق طويل وطفقت ألتهمه التهاما .. إنني أستذكر دروسي ومحفوظاتي .. وبعد نهايته وقفت أسأل نفسي: هل سقط من الديوان شيء ؟ فلأعصر الذاكرة إذا وأسترجع المقاطع الجميلة التي أعجبتني أو استشهدت بها يوما مما لم أظفر به في الديوان الرائع. كنت أردد بيني وبين نفسي منذ أمد بعيد هذه الأبيات للشاعر رحمه الله يخاطب فيها الماركسيين وأمثالهم: كل يوم لكم إله جديد *** ووجوه محمرة وخدود ولكم يا عبيد رب من الطين إليه ركوعكم والسجود إلى أن يقول : عمر بن الخطاب أفضل من لينين مليون مرة .. ويزيد ! تذكرت بعض أصدقائي الذين كانوا ينتقدون هذه المقارنة ويرون أن ألا يذكر عمر رضي الله عنه في سياق مع أمثال لينين .. وقتها كنت متحمسا أنتصر لنية الشاعر الصادقة ومغزاه في ظل سطوة الشيوعية واكتساحها لبعض الدوائر آنذاك.. هذه القافية (الدال المضمومة) لم أجدها في الديوان والأبيات ضمن قصيدة طويلة شيئا ما .. لعلي أو لعل من جمعوا الديوان أن يظفروا بها .. وبمثيلاتها إن كان بقي شيء لم ينشر ولا أستبعد ذلك. لقد كنت أجمع أعداد مجلة الشهاب وضاعت مني .. وزرت مكتبها في بيروت وأهدوني ما توفر لديهم مشكورين من مجلداتها ولكن بقي الكثير. فتلك القصيدة الفقيدة هي ضمن ما نشرت مجلة الشهاب فلعل من يحتفظون بأعدادها أن يبحثوا عن تراث الشاعر الذي لم يطبع .. فهو شاعر مبدع بحق .. ولا أجد في شعراء فلسطين من ذوي الروح الإسلامية من يباريه أو يجاريه، اللهم إلا الشاعر الشاب «تميم البرغوثي» فهو نفس مختلف وإبداع متألق وعطاء يهز الوجدان بأعذب الألحان .. وللحديث صلة.