لاشك أن ما حلّ بمدينتنا الحبيبة الحالمة الطيبة والطيب أهلها كارثة بكل ما للكلمة من معنى (فليس رآءٍ كمن سمع) فالمصاب كبير ولا أخال الكلمات أن توفيه حقه دقة ووصفا وبيانا. فمن يقف عليها الآن بعد مضي أكثر من عشرة أيام ليعتصر ألما لما يرى ويشاهد ولا أشك بأن عينه ستجود عليه بدمعات غالبات حرى طواعية لا كرها. فمن يمر عليها الآن مرور الكرام ليتذكر قول الحق جل ذكره : (كأن لم تغن بالأمس)، كما أن كارثة بهكذا حجم لم تمر علينا من قبل لابسياقها ولا بأثرها، فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من حال أهل النار. لله الحكمة البالغة فيما جرى ونرى فإن هذه الكارثة علمها الله وقضاها وكتبها وشاءها قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير)، وجاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: « كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء»، وعند الترمذي عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله يقول:« إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ما كان و ما هو كائن إلى الأبد»، فهذه الحادثة وماكان قبلها وماسيكون بعدها فهي مكتوبة محفوظة عند ربي فوق السماء السابعة في لوح كبير كما بين السماء والأرض، محفوظ لا يستطاع الوصول إليه فيزاد فيه أو ينقص منه. إذْ لا مفر؛ فكلما هو في ذاك الكتاب مقضيّ سينزل قدرا مقدورا ( وكان أمر الله قدرا مقدورا). فماأصاب أهلنا في جدة لم يكن ليخطأهم وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم. تأمل معي قول الحق جل ذكره : (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) فكل مصيبة فهي مكتوبة من قبل ، وكل مصيبة شاءها الله ستصيب هدفها بدقة كما كتبت، رفعت الأقلام وجفت الصحف، ولكنها في ذات الوقت مسألة عاقبتها وأجرها وذخرها وحسابها لنا ولصالحنا - لا علينا - ، إذ لو قال: (علينا) لكانت عقوبة وجزاء، وما حدث أحدثه الله عز وجل لحكمة أرادها ولم يحدثه عقوبة. ق ال تعالى : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) فأمر الله في خلقه وخليقته اقتضى هذا الابتلاء والاختبار لعبيده، وهو نازل لامحالة، فمرة يبتليهم ببعض الخوف ومرة ببعض الجوع ومرة بنقص بعض النعم الظاهرة أوالباطنة إما بجائحة سماوية أو أرضية فتذهب الأنفس والأموال والثمرات إما بقتل أو مرض أو سرقة أو نحوها. وإخواننا ابتلاهم الله عز وجل بشيء من هذا فقد ابتلوا بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات فمن أخذ ولده فقد أخذ ثمرة فؤاده وقلبه، فقد جاء في المسند عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال الله : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال نعم . قال : فما قال ؟ قال : حمدك واسترجع ، قال : ابنو له بيتا في الجنة ، وسموه بيت الحمد». ومن رجمته أن قال (بشيء) وليس بأشياء أو بكل، فالعباد ضعفاء لايطيقونها كلها، ومع هذه الابتلاءات ينقسم الناس إلى قسمين : - قسم صابر يثاب بمنحتين وبشارتين (الصلاة والرحمة) مع علاوة (الهداية). قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : «نعم العدلان ونعمت العلاوة (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ) فهذان العدلان )وأولئك هم المهتدون) فهذه العلاوة»، وهي ما توضع بين العدلين ، وهي زيادة في الحمل وكذلك هؤلاء ، أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضا. - وقسم آخر جازع تلحقه مصيبتان (مصيبة الخسارة ومصيبة الحرمان). أما الصابرون على ما آلمهم في قلوبهم وأبدانهم؛ فهم يقولون: (إنا لله) مملوكون مدبرون تحت أمره وتصرفه وتصريفه، فليس لنا شيء إن ابتلانا فقد تصرف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم فلا اعتراض عليه (وإنا إليه راجعون) يوم المعاد لنرى بأم أعيننا ماتقر به أعيننا من النوال والثواب والنعيم. وهذا الاسترجاع نعمة خصنا الله بها في كتابه الكريم، فقد في المسند من حديث الحسين بن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها ، فيحدث لذلك استرجاعا ، إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب ». هذه الدار الفانية طبعت على هكذا أقدار، وجبلت على هكذا مصائب، وعرفت بهكذا بلايا ورزايا. ومن يعش فيها يعش في نصب ووصب وتعب، ونكد وكبد وكدر، وشدة وعسر ولأواء، ولن يسلم منها أحد المرء بين مصائب لاتنتهي=حتى يوارى جسمه في رمسه فمؤجل يلقى الردى في أهله=ومعجل يلقى الردى في أهله وهذه المصائب والمتاعب ما هي إلا رسل تنبيه لنا من الله تعالى؛ أن هذه الدار ليست لنا بدار مقر ولا إقامة ، فطول بقاء المرء في الدنيا لايزيده منها إلا تعبا وعناء وحزنا ورهقا. أخرج أبو داود والطبراني والحاكم والبيهقي وصححه الألباني حديث أبي موسى رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : « أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة إنما عذابها في الدنيا الفتن و الزلازل و القتل و البلايا»، فسبحان من جعلها رحمة لنا –أمة محمد- وعذابا لغيرنا. أيها المكلومون تأملوا قول الحق جل ذكره وأديموا تذكر هذه الآية: (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا). مجرد الابتلاء ليس شرا؛ إنما الشر أن نسقط في الابتلاء، وقمة الابتلاء في حدود إدراكنا هو فقد الحياة. وهذه البلية العظيمة جاءت لنا حال وقوعها بمنح عظيمة وستأتي لنا ببقية المنح مع قادم الأيام أدركنا ذلك أم لم ندركه. فهذه الكارثة أشبهها بالمسرحية – تشبيها مع الفارق- لم ندرك من منها سوى المشهد الأول من فصلها الأول . ولا شك بأن ما حدث تقشعر لهوله الأبدان ولكن : قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت=ويبتلي الله بعض القوم بالنعم وإذا كان يستبعد من العاقل أن يتسبب بفعله في فساد حاله وماله ومآله، فما بالنا بالله الحكيم الخبير فكل تصرف له في ملكه ومماليكه فيه من الخير والحكمة والصلاح مالايفقهه كثير من الناس (فالخير بيديه والشر ليس إليه) ولو بدا قدره خلاف ذلك – بادي الرأي – - وهذه بعضا من النعم والمنح التي جاءت في طيات هذه المحنة : - أولها: منحة ربانية فقد اتخذ الله عز وجل ممن أصابتهم هذه البلوى شهداء ( ويتخذ منكم شهداء) فبقدر ما نحن حزنين لفراقهم وبعدهم عنا، ومتألمين لما كابدوه، بقدر ماهم فرحين بما آتاهم الله ومستبشرين بما قوبلوا به عند ربهم. - وثانيها: ساعات الوجع والألم يذهبن ساعات الخطايا. فقد نال إخواننا وأخواتنا المبتلون بهذا البلاء العظيم منحة ربانية أخرى وهي محبة الله لهم، وعظم ثوابهم. أخرج الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه مرفوعا: «إن عظم الجزاء عند الله مع عظم البلاء، فإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط». - وثالث هذه المنح الربانية ؛ إرادة الله الخير بهم ولهم فقد جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «من يرد الله به خيرا يصب منه». - ورابعها: تكفيره لسيئاتهم ورفعته لدرجاتهم، فقد جاء في الصحيح أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: « مايصيب المسلم من نصب ولاوصب ولاهم ولاحزن ولاأذى ولاغم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه » فهذه الست التي وردت في الحديث قد أصابت إخواننا فليبشروا بعظم الأجر والعوض، وثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: « يودّ أهل العافية يوم القيامة حين يُعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرضت في الدنيا بالمقاريض » (صحيح الجامع : 8177) وجاء في صحيح البخاري قول الله تعالى: « ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبَضتُ صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ». - وخامس هذه المنح : البشارة من الله بنصرهم ، إذ لاشك بأن من وقع عليهم هذا المصاب من شهداء أو مصابين أو مكلومين قد ظلموا وإن كنا لا نعلم على وجه الدقة من ظلمهم ولكن الله يعلمهم ( وإن الله على نصرهم لقدير) ( والله لايحب الظالمين) فهم شهداء على حقيقة وضعنا المؤلم الغارق في الفساد، كما هم شهداء بالغرق. - وسادسها : أنها بشعت الظلم في أعين الناس وكرهت لهم الظلمة الذين لم يراعوا حاكما في الأرض استأمنهم، ولاحاكم الأرض والسماء الذي قال في حديث أبي ذر القدسي في مسلم : (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)، بل انساقوا وراء شهواتهم ونزواتهم لايلوون على شيء واستمروا في سوء تصريف المال العام، بعد أن استمرأوا نهبه، فويل لهم مما سولت لهم أنفسهم وويل لهم مما نهبت أيديهم. وهذا البوار الجزئي أظهر لنا بعض العوار وإلا فالخافي أعظم. - وسابعها: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما أصبت ببلاء إلا كان لله علي فيه أربع نعم : أن لم يكن في ديني، وأن لم يكن أكبر منه، وأني لم أحرم الرضا، وأني أرجو ثواب الله تعالى). تصور معي لو كانت هذه الكارثة أيام الدراسة مثلا كيف ستكون الفاجعة ؟ ستكون أسوأ وأشد ولكن الله سلم. - وثامنها: أن هذا المصاب لفت أنظار ذوي الشأن والمسؤولين إلى تدارك وضع مصيبة أكبر - لو حلت – وهي ما أسموه (بحيرة المسك) ليس من باب المشاكلة، ولكن من باب (يسمونها بغير أسمائها). وبالمناسبة فالله ألطف وأرحم وأكرم وأحلم من أن يغرقنا بمياه الصرف الصحي، فحسن ظننا بالله عز وجل أنه رحيم لطيف بعباده لم يعذب الكفرة الفجرة بمثل هذا العذاب فكيف بالموحدين الراكعين الساجدين العابدين؟! – علاوة على أنهم في عبودية الضراء فأسأل الله أن ينعم عليهم بالصبر الذي هو شطر الإيمان، وأن ينيلهم أجره (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) قالوا: كالماء المنهمر، وأسأله أن يرزقهم نفوسا مطمئنة تؤمن بلقائه وترضى بقضائه وتقنع بعطائه. مشاكل جدة أضحت ككرة الثلج ، فحتى لا يتسع الخرق على الراتق ؛ من يقول أنا لها فيوقفها ؟ ومن ثم يقوم بتذويبها ؟. - لهذه المدينة الحبيبة الجميلة دين في عنق كل أبنائها، فالله الله بالدعاء فهذا وقتكم. - (تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز) هكذا تقول القاعدة الشرعية الأصولية الفقهية، فهل كان علماء الشرع وفقهاء الشريعة في بلدنا المعطاء كانوا في الموعد على قدر المصيبة وهول الفاجعة؟ هل عايشوا الناس والحدث؟ أم اكتفوا ببيانات لاتسمن ولاتغني من جوع؟! وبهذه المناسبة شكرا سلمان العودة شكرا محمد المنجد فأنتما أول من تعاطى مع الحدث وبسرعة وإيجابية، وتعقل وهدوء. وهذا الواجب على القدوة أن يكون حاضرا حين يحتاج إليه، ولا يترك الناس يمورون ويموجون ويختلفون فهذا تقصير لئلا يُترك الناس حيص بيص. - (تأخير الإغاثة عن وقت الحاجة كذلك لايسوغ) فهل كان أثرياء جدة على مستوى الحدث ؟ وهل كانوا في الموعد؟ اللهم لا. وهل كان إعلامنا بكل أجنحته الثلاثة (المرئي، المسموع، المقروء) على مستوى الكارثة توضيحا وشفافية؟! أما المقروء فنعم، وأما البقية فالتقصير واضح. - الأرواح التي ذهبت، والأموال التي أهدرت، والعقارات التي أتلفت، والسيارات التي سحقت، والأحياء التي تضررت، والجامعات التي خسرت، ياترى هل هي في ذمة العشوائية؟ أم في ذمة العشوائيات؟ أم في ذمة من ؟ - هل سنرى ولادة (جدةالجديدة) بعد تسعة أشهر من الآن ؟ فالجنين في بطن أمه لايولد حتى يمر بمراحل الخلق في ظلمات ثلاث (ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة )، ثم يكتمل نموه وينزل للدنيا بعد مخاض عسير، وجدّة مرت بظلمة الليل وظلمة السيل وظلمة بحيرة التصريف. - ليس من أخلاقيات العربي الأصيل، والمسلم الحق، تصفية الحسابات على هامش هكذا كارثة وإن حصل فهو دليل ضعف ونقص وضعة. - كل ما قدم للمكلومين لم يضمد الجراح بعد ؟ إلا خطاب خادم الحرمين الشريفين –رعاه الله- فأي مساس بقوة الأمر الملكي الكريم أو تهوين من شأنه سيزيد الجراح على إخواننا، وسيزيد طين جدة بلة. - كل الدعوات للجنة المكونة بالسداد والتوفيق، وتحقيق تطلعات المواطن المكلوم والمسئول المحزون والوضع المضطرب. وأطلب الكل بالدعاء لهم فهم – والله- على ثغر أعانهم الله. داعية وباحث دكتوراه في السنة النبوية