جاءني المفوّه الكنعاني فقال : سلامٌ عليكم ما وجدنا فراقَكم=سوى القبرِ بل تاللهِ كان هو الحشرُ ! فقلتُ وقد عَجِبتُ من بيانِه قبل أن يرتدَ إليه طرفُ لسانِه : وأهلاً وسهلاً ما رأينا اقترابَكم=سوى الحيةِ الرقطاءَ إذ أمرُها أمرُ !! قال الأولى أن تردّ السلامَ بالسلام فردُّك يثيرُ الاستفهام! قلتُ أيها الهُمام أنا ممن يرعون الذِمام ويصلي والناسُ نيام قال إذن لماذا تسخر من ابنِ كنعان وتشبهه بالأُفعوان قلتُ عذراً إن أصابك الذُعر، هي فقط لعنةُ الشعر ونابُ السُعر، فلم نعُد نسمعُ إلاّ شِعرا ولم نُدرِك للبئرِ قعرا، لقد ضجَّ الفضاء وكثرت الضوضاء، فلم نعد نفرقُ بين الثغاءِ والعواء ولا الهديلِ والمواء، فقد تناسختِ الأصوات وشاعتِ الهفوات، وتعددتِ اللهجات وتباعدت الجهات فقال أمهلني دقيقة لأخبرك الحقيقة : لقد جئتُكَ هاربا ولا أطلبُ غير النجاةِ مآربا!! قلتُ أمِن سالم الزير أم من انفلونزا الخنازير!؟ قال بل من تناسخ الشعراء وتهافت الآراء وتعدد الأمراء!! فجحظت عيناي وصمّت أُذناي، وتلعثمت شفتاي واصطكّت ركبتاي، وتوجستُ خِيفه وجلستُ كأني تحت السقيفه، وسألته أأمراءِ الحربِ أم مجرمي الصِرب؟! قال بل أعني سفراءَ القنواتِ المغاتير وأمراءَ الشِعرِ (العناتير) ولا تسل عن الرسائل والفواتير قلتُ لستَ مُلزماً بالتصويت ولا أظنُكَ إلاّ قد غويت قال بل أخافُ العيالَ في البيت فلا يكاد بعضهم يبيت، تراهُ كالعفريت وكلُهم يشتعلُ كعودِ الكبريت، فلم نسلمِ من إثارة النعرات وتصيدِ الثغرات وتفضيلِ دجلةَ على الفُرات، حتى فقدنا المُتعه وأضعنا صاحب الصنعه فنرى الأجدرَ منتقدا والأمهرَ مضطهدا قلتُ ولا اللجنةُ تنشدُ الإنصاف ولا سياسة البرنامج تبتعدُ عن الإجحاف، فالفائزُ تحددهُ الأصوات وإن استحقَ الرجمَ بالحصوات، فقد غرسوا السكاكين واستنزفوا جيوبَ المساكين قال الشعرُ يا صاحبي لهُ أهلُه فاترك من غلبَهُ جهلُه، خذِ الشعرَ من صادقي الشعور ولا تجعل العميان كالعور قلتُ ومَن تُراهُ الصادق أيها الحاذق؟! قال ألم تسمع بفصل الخطاب والعجب العُجاب في «أمير كذّاب«؟! قلتُ وكم أضحكتني حد السعال «شقاوة هالعيال«! قال ألا ترى الشعرَ يساوي بين الوزيرِ والأجير والأميرِ والضرير فتجدهم جميعاً يتحدثون عن المُعاناه وكلُّهم ينمِّقُ معناه؟! قلتُ هكذا أحوالُ الناس وإن لم يُعجبك أبونواس فاسمعْ بكاءَ أبي فراس، وهو الفارسُ الأسير والعاشقُ الأمير ألم يقل : إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى=وأذللتُ دمعاً من خلائقِهِ الكِبرُ ! قال يكفيه أن قالَ (دمعاً من خلائقِهِ الكِبرُ) ولم يخالطْ دمعَهُ حِبرُ! ولا بكى بعد البكاء ولم يجعلها تصديةً و مكاء!! ألم يقل : أيضحك مأسورٌ وتبكي طليقةٌ!؟=ويسكتُ محزونٌ ويندبُ سالي لقد كنت أولى منك بالدمعِ مقلةً=ولكن دمعي في الحوادثِ غالي قلت لقد ضحك المغبون بينما يبَكون وهم يلعبون قال يضحك المديون وكأنه يتعاطى الأفيون! ويبكي الغنيّ وعيشُه هنيّ!! قلتُ على كلِ حالٍ فالبكاءُ مواهبُ وللناسِ فيما يعشقونَ مذاهبُ! قال لقد جَدَّت علينا غياهب قلتُ أفصِح أيها الراهب قال أعنِي لقاءَ الملائكةِ والشياطين قلت لا أعرفُ إلاّ أبناء الطِين فلا تدخلني حرباً كحطّين، وأنصحك أن لا توقد النارَ في البساتين وأن لا تمزجَ النحاسَ بالبلاتين!! قال وهل يلتقي الشيوخُ والفنانين قلت وقد يجلسُ العقلاءُ والمجانين! قال ولكن أخبرني.. ما رأيُك بقصيدةِ القرني قلت مثلي لا يقيّمُ مثلَهُ فلا تُجبرني! وقد قلتُ في صفاتِه ما يليقُ بذاته وألجمتُ من أعدائِه مَن لايساوي قيمةَ ردائه ولا أظنُ الشعرَ و قوافيه توفيه من حقِهِ بعضَ ما فيه، وقد كتبتها تودداً إليه لأرد دعوى حاسدِهِ عليه قال : وماذا قلت يا أُمية بن الصلت؟! قلتُ تجدها إن أردتَ مكتوبة على تاجِ محبّةِ الصالحين مصلوبة!! قال إذن أسمعني بقصيدتهِ ما تراه و لا تأبه بالأحاديث المُفتراه قلتُ لا تزدني بإفرادها سُقما ولا تسقني بانتقادها سمّا! قال ولكنهُ وإن ضمّنها علما فقد جعلَ أكثرها نظما، وقد تجدهُ مِرارا يتخمُ القافيةَ تِكرارا قلتُ كفاها أن حَوَت كلمة التوحيد وأنها وإن طالت لا تحيد قال ولكن ماذا عن الشِعرِ والمهنيّة والصنعةِ الفنيّة قلتُ جزى الله الشيخَ خيرا وإنِ انتهجَ نهجاً خطيرا فإن لم يُجز العزف فقد أباحَ الخطف فأكثرُ الألفاظ مخطوفة وأغلبُ العبارات معطوفة ولم تحفل بالإعجاز بقدر ما حرصت على الإنجاز و تناست الإيجاز ولكنه عملٌ مبرور وجهدٌ مشكور فليس فيها بيتٌ مكسور!! قال وماذا عن المجاراة و طلبك الملايين (وكأني بك في سباق المزايين) وما قرأنا في غِلاف (المدينةِ) من عناوين قلتُ جاريت قصيدتَهُ احتسابا ولم أرِد من ورائها اكتسابا قال أتعني أنكَ لا تحبُ المال رغم ما أرى من عُسرِ الحال قلتُ بل أعضُّ الريال وأقطعُ وراءَهُ الأميال لكنّي لا أكنزُ الغِلال ولا أُقتِّرُ على العيال، تجدني كالريحِ المُرسله إن وجدتُ ما أبذله، وإن أصابتني حرفةُ الأدب فقد بلغتُ بعض الأرَب وأرجو أن تُبلغني أعلى الرُتب!! قال أتزعمُ أنكَ لا تدخل المسابقات وتعدُّها من الحماقات قلتُ ليستِ المشاركةُ من الحماقه إذا كانت لديك اللياقه وحافظت على اللباقة و انتقيتَ من أزاهيرِك باقه، وقد شاركتُ في سوقِ عكاظ بنقيِّ الألفاظ، من الشعرِ الفصيح وعلى المذهب الصحيح، وكتبتُ للوطن في عيونِ الشعراء وترنّمتُ بِحبِ الرايةِ الخضراء، وحُزتُ المركز الثالث وورثتُ الجائزة فَنِعم الوارث قال وهل أرضاك المُنجز بالحصول على هذا المركز قلتُ لقد كتبتُ للوطنِ ديوانا وكان الوفاءُ عنوانا، وجعلتُ الولاءَ نِبراسا والإنتماءَ أساسا، وكانت قصائدُهُ كالدرْ ولم أشوههُ بالشعرِ الحرْ، وقد حوى من القصائد أكثرَ من عِشرين ولا زلتُ كما ترى أجمعُ بينَ عُسرين، وقد نشرتُ الديوان قبل أن أقرأ الإعلان، فكتبتُ قصيدةً جديدة أظنها كأخواتها خريدةً فريدة! قال أتعني أنها ليستِ الأجملُ من شعرِك ولا الأنضرُ من زهرِك قلتُ إنها نبتةٌ في البُستان سقاها نبضُ الجِنان وعطّرَت بشذاها اللسان قال لذلك أراك بدأتها ب: قلتُ وكم تباهتِ الروحُ كم غنّى بهِ الوترُ !! قال : وهل قدمتَ ديوانَك لوزارةِ الإعلام وقرّت عينُك بنزيف الأقلام وحققت أقل الأحلام قلتُ : توقعتُ أن يشتروه ولكن يبدو أنهم لم يقرأوه، وتوسمتُ أن يوزعوه على المكتبات العامة ولكنهم بتأخرِهم جاءوا بالطامة، وأعرضتِ الأنديةُ الأدبية وكأن القصائد ليست عربية، فلا يُعجبهم إلاّ الحداثي ولا يسعدهم إلاّ المراثي، وآملُ من وزارة التربيةِ والتعليم أن تشملهُ بالتقييم وتنتقي منهُ ما ترتضي وتعطي لحاجة المناهجِ ما تقتضي! قال : أعجبُ أن يُعطى اللاعب ما يُحرم الكاتب ويُردم الناضح ويُحفرُ الناضب، ويُمنحُ العاطل بوجه الباطل الكثير من الأموال على ما أرى من تردِّي الأحوال، وأسمعُ بتوالي الصفقات بينما نتلقى المزيد من الصفعات قلتُ : لا تذكرني بكأس العالم فالإتحاد الآسيوي ظالم قال : دعني من عالَم الكُرَة والدوابِ المُستنفرَة وانظر لِمَن فرَّ من قسورة، فأين نحن والعقول المُتحجرة من الأمم المتحضرة، فقد يموتُ العالِم «في أمةٍ تداركها اللهُ كصالحٍ في ثمود» و يُوارى جثمانُه اللحود ويأكل أبحاثَهُ قبل جسدِه الدود، ونتجاهلُ قيّمَ أبحاثِه ونغفلُ عن لفحِ لهاثِه ونرى تراثَهُ كأنكاثِه ونجعلُ كتبَهُ كالأنقاض وتُشترى بالملايين »بنات الرياض» ونقتني مؤلفات الطبخ والطبيخ ولا نأبهُ بنفائس التاريخ قلتُ : عسى أن تُقضى ديونُه ويُكفى أبناؤهُ المؤونة، وأتمنى أن نُدرِك الباقين وأن لا نجعل اللاحقين كالسابقين. قال : ويكفيك أن تحظى من قولِك بالفضيلة وتلزم الأخلاقَ النبيلة وإياك أن تلجأ لتصويت القبيلة!! قلتُ : لن أفعل ولو عدمتُ الحيلة قال : واحذر أن تقنعَك الأفكارُ الدخيلة فتكونَ كالمجاهرِ بالرذيلة قلتُ : إن لم نحكِّمِ العقول فتعساً للقائلِ والمقول قال : ولكني قرأتُ لك قولك : وحاولَ أن يُغوي فؤادي وما درى=بِمَن لم تزل أرواحُهنَّ لهُ عرشا تعرّضَ لي يوماً وما نالَ مأرباً=فلم أُعطِهِ أذناً ولن أذبحَ الكبشا عَلمتُ بما يخفيهِ مكراً مغلّظاً=وما طِعتُ يوماً مَن تردّى ومَن غشّا أُروِّضُ مَن أرضى لنفسي بحِنكتي=وأُقْدِمُ بل أغشى السيولَ ولا أخشى أتنصحُ من لو نِلتَ بعضَ جنونِهِ=لَقلتَ كفاني قرّبوا الغُسلَ والنعْشا فأقْصِرْ فلم أسمعْكَ يوماً ولن ترى=دليليَ رأيَ المُقعدِ البائسِ الأعشى فَقُلْ إن رأيتَ الحُسنَ –أوّلَ نظرةٍ-=تباركَ مَن صاغَ الجمالَ ومَن أنشا أنا البحرُ فانظر ما ترى في عوالمي=أجدتُ بها التلوينَ والحفْرَ والنقشا فألقى ضيوفَ الأسرِ طلْقاً مُرحِّباً=وأُظهرُ وجهَ الشوقِ مستبشراً بشّا فتحتُ على مصراعِ بحري مصائدي=ولم أكترث : مَن أوصدَ الصدرَ أو أفشى! قلتُ : محدثُكَ لا يفارقُ محرابَه و لاينافسُ في اللهوِ أترابَه و لم يتجاوز الدعابَه وإن أسالَ الهوى لعابَه ،وقد كتبتُها لصديق أراه كالشقيق وقد بدأتُها ب: ستُحشرُ يومَ البعثِ من بيننا وحشا=وأُبعثُ يوم الحشرِ (في هيئتي ) قِرشا ! نعم لك أنيابٌ ..وها قد نزعتُها=فلم تستطعِ عضاً ولن تُحسنَ النهشا عرفتُك يا هزّاعُ كنتَ ولم تزل=فَسوقاً يحثُ السيرَ في غيِّهِ (برشا) إذا سار نحو الفِسقِ يسبقُ خيلَهُ=وإن عادَ للأبرارِ فالراكبُ الجحشا وهبتُ لهُ نُصحي فزادَ تمرّداً=وهيهات لو أفصحتُ أن أُسمعَ الطُرشا وإن ضمنتُها بعض الدعابيات فقد ختمتُها بأصدقِ الأبيات فقلتُ : ولكنني واللهُ يعلمُ نيَّتي=عفيفٌ فلا أرضى حراماً ولا فُحْشا فقال لن أُقيم عليك الحد فلا أراها إلاّ من سقط الزند قلتُ يابن كنعان ألا تقرأ القرءان، فالشعراءُ يقولون مالا يفعلون ويتمنون ما لا ينوون!! فودّعني بابتسام بعد أن أراني حدَّ الحسام وأقحمني حقلَ الألغام وخلّفني بينَ الركام.