هناك ارتباط كبير بين مفردات اللغة وتاريخ معانيها في الذاكرة، ليس هذا فقط، إن هناك ارتباطًا أكبر بين المفردات ومتعلقاتها من الأفعال في الذاكرة أيضًا.. على سبيل المثال، الصوم، في اللغة يعني الامتناع عن الفعل، حين لا أفعل شيئًا أكون صائمًا عنه وفي القرآن العظيم: (إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيا)، الصوم هنا يعادل الامتناع عن الكلام، إنه منع اختياري باستجابة عبودية. وإذا أردنا النظر في منتهى الفعل أو في الغرض فإننا سنعلم أن ذلك الصمت الاختياري يساوي قرار النفس على طمأنينتها كما هو يساوي معنى التفويض الإيماني المحض لله تعالى في مقابلة الأمر الواقع.. هذا يعني أن للصوم صورتين إحداهما ظاهرة والأخرى باطنة وأن له معنيين أحدهما ظاهر والآخر باطن. المعنى الظاهر الامتناع، إنه الصورة الظاهرة أيضًا، لكن المعنى الباطن متفاوت بقدر تفاوت المعنى الظاهر للصيام، نحن في هذا الشهر الكريم صائمون، إننا نمتنع عن شهوات بعينها من انبلاج عمود الصبح حتى غروب الشمس، تلك صورة صومنا الظاهرة، إنها استجابة تعبدية أيضًا. إنما ما هو عمق الأثر؟ هذه الصورة الظاهرة ينبغي أن يكون لها أثر، إذا انقطع الأثر كان الفعل بلا معنى، الصوم في الحقيقة امتناع لكن فيه إرواء، قدر ما يمتنع الجسد عن شهوته المحسوسة ترتوي نواحيه الأخلاقية، ترتوي روحه، يرتوي ضميره. نحن هنا على مشارف العمق الإنساني.. الذي أفهمه أن التقوى ذروة العمق الإنساني وذروة العمق الأخلاقي، إنها حياة ضمير. إن النفس تستوي على استقامتها في ذاتها وعلى استقامتها في علاقتها بالآخرين، إذا تظاهر أحدنا بالصوم أمام الناس فإنه أعظم إثمًا من المجاهر بعدم الصوم، إنه يتقي الناس أكثر مما يتقي الله سبحانه وتعالى، هناك موت مضاعف للضمير، ليس له عمق إنساني ولا عمق أخلاقي. في الصورة الظاهرة يمكن أن نشترك مع الآخرين، إنما الفرق في الباطن. ما أخطره من فارق، إنه هائل الاتساع، حتى في حال صدقنا نتفاوت بمقدار هائل من العمق الإيماني البديع، لسنا سواء غير أننا ينبغي أن ننظر في ضميرنا، هل صامت ضمائرنا؟ ما الذي يمتنع عنه الضمير ليكون صائمًا؟ حين يصوم ضميرنا يظل في حالين، حال امتناع وحال فعل، حال امتناع عن الخطأ، وحال فعل للصواب وتصحيح الخطأ إذا وقع. هذا صيام الضمير، أن يظل موقفه مطابقًا لاقتضاء العلم الذي يعلمه وإلا فإنه يبقى مريضًا مراوغًا متجاوزًا، حين تصوم جوارحنا ولا تصوم ضمائرنا يظل صيامنا منقوصًا، إنني أذكر الآن قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) في الحديث كما أفهم صورتان اثنتان، صورة ظاهرة وصورة باطنة، صوم جوارح وصوم ضمير، حين لا يكون هناك أثر وتلازم بين الصيام الظاهر والصيام الباطن يتعطل معنى الصيام. إنه يغدو عملا بلا روح. هذه صورة مناسبة يتبين فيها علم الضمير وموقفه، إن موقفه موقف منقوص، صامت جوارحه ولم تصم روحه، صام المحسوس ولم يصم المعنوي. ليس هذا معنى حقيقيًا للصوم، وإذًا لماذا لا نجيب عن السؤال: ما الذي يمتنع عنه الضمير ليكون صائمًا؟ إذا امتنع ضميرنا عن نقيض - الأخلاقية - فهو صائم. هذه الفكرة بكل اتساعها مكنوزة في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق فإن سابه أحدُ فليقل إني امرؤ صائم) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، إنه ينتهي - الضمير - عن نقيض الأخلاقية، الفسوق فعل غير أخلاقي، يبقى فقط موقف أخلاقي مدهش، إنه الحياد، \"إني امرؤ صائم\" تعني: إني امرؤ صائم الضمير ليس الجوارح فقط، إنه صيام حسي أخلاقي.