لا يكفي المتتبع للأجندات المتنوِّعة والمتباينة للسياسة الخارجية الإيرانية، أن يكتشف بين الحين والآخر أن من الأهداف المستترة دوماً إزاحة أي تقدُّم دبلوماسي عربي يُوصل أي دولة عربية لمقارعة الدول الكبار، سواء من أصحاب الفيتو أو الكبار الاقتصاديين في قمة ال20. فأي محاولة لصنع موقع إستراتيجي لأي دولة في المنطقة تأتي من خلال محورين لا ثالث لهما: صناعة الاقتصاد القوي، والإصرار على تقوية مصدات الأمن المختلفة (داخلياً وخارجياً)، شريطة أن تكون سواعد تلك الصناعة وهاتيك التقوية "ذاتية"، أي من المقدرات الخاصة، بعيداً عن الركون للمساعدة الخارجية بأي شكل من أشكالها، أو الوقوع في براثن "التبعية" بأي معنى من معانيها. للأمانة والتاريخ، خصوصاً فيما يخص العقدين الأخيرين بعد إشكالية الغزو العراقي "الصدّامي" للكويت، مثلت المملكة العربية السعودية حقيقة الدولة "الإستراتيجية" الأقرب لتطلعات كبار العالم، خصوصاً بعد وقوفها بحزم أما عواصف متباينة من مواجهة الإرهاب في الداخل، وصنوف من الإيعازات الخارجية، كانت أبرزها بتشفير واضح من الداخل الإيراني، ومِن مَنْ يواليهم عبر قيادات وأنظمة في المحيط العربي. ولم تكن مصر بوصفها صاحبة الريادة الإستراتيجية العربية لسنوات طويلة خلت في نفس الوضعية السعودية التي وضعتها محل احترام أهل القوى الاقتصادية، وأهل السيادة الدولية (الفيتو)، خصوصاً بعد خروجها "المقنع واللبق"، من أخطر أزمة يمكن أن تمر بها دولة في العالم، حينما صحا العالم بعد 11 سبتمبر على كارثة سياسية دولية. ورغم دلالات تلك "النكبة السياسية" على تحقيق الاهتزاز وتعميق الشرخ بالنسبة للمواقف الدبلوماسية السعودية، والمحاور المؤكَّدة التي صنفتها في المكانة الإستراتيجية اللائقة عربياً وإسلامياً وشرق أوسطياً وإقليمياً ودولياً، إلا أن استمرار الإنتاج "الذاتي" لصناعة الاقتصاد القوي وتقوية جبهات الأمن المختلفة، بأكثر من وسيلة إثبات، أقنعت أهل القرار في أكثر من عاصمة مهمة، على رأسها واشنطن، على أن السعودية هي الشريك السياسي القوي في المنطقة؛ ما أسهم لاحقاً في تأكيد انضمام الاقتصاد السعودي إلى اقتصاديات الدول الأبرز في قمة ال20.
الهم الإيراني.. قوة العرب جهابذة النظام الإيراني حين يستندون على إرشاد آيات الله و"ولاية الفقيه" وتشريعات ما يُعرف ب"التقية"، لا يعتصرون الهم تجاه كل ما هو عربي، أكثر مما يعتصرونه تجاه التصاعد السعودي. بعيداً عن الخط الطوائفي الأيديولوجي الذي تسعى كافة المسارات الإيرانية لنشره في أكثر من نقطة عربية، بحثاً عن موالين طائفياً أو قيادياً. ومن أزمان خلت وحتى هذه اللحظة، تدور فكرة المخاوف الإيرانية تجاه كل ما هو عربي في دائرة التوجُّس من إمكانية تحقيق أي "قوة عربية"، لهذا يستمر الإصرار فكرياً وإستراتيجياً على أن الخليج "فارسي" وليس "عربياً"، وأن بحيرات النفط حوله في أغلب الدول الخليجية هي إيرانية أصلاً، ولهذا أيضاً زعم موقع "بولتن نيوز" المقرب من الخارجية الإيرانية في تداول إخباري حديث، أن "منابع النفط في السعودية والعراق والكويت لا بد أن تعود إلى إيران"!. وفي أوج هذه المخاوف الإيرانية من اقتناع محاور عالمية مختلفة بدور السعودية ك"لاعب عربي قوي" على الصعيد الدولي، جاءت دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتحقيق أول كونفيدرالية عربية حقيقية، من خلال تحقيق اتحاد لدول الخليج بدلاً من الفكرة السابقة في إطار مجلس التعاون, الأمر الذي أظهر "الأنياب المسمومة" في فم الغضب الإيراني سريعاً، وأخرجها. في داخل إيران، اضطر عدد من الطلاب العرب من دول مختلفة لقبول منح دراسية، من جراء تقارب بعض الأنظمة أو الطوائف وغيرها. إلا أن الحقيقة المتفق عليها، من غالبية من أكملوا دراسات أو دورات تدريبية حتى في إيران، أن هناك شحناً واضحاً تجاه "الدم العربي"، يظهر من كافة الطبقات والفئات، حتى من كبار المثقفين والأكاديميين، الذين يفترض فيهم الترفُّع عن الصغائر "الشوفينية" والطائفية الضيِّقة. الاتفاق على كره "العربي"، كلمة سر غامضة بالنسبة للمشتغلة أذهانهم بالفكر الصفوي "الأسود"، وليس الأحمر، وفوارق الألوان سنوضِّحها لاحقاً!.
استثمار ب"الاستحمار" لمن لا يعرف فإن شرارات الثورة الإيرانية التي أتت بنظام الملالي الحالي قبل أكثر من 24 عاماً كانت انقلاباً على نظام الشاه السابق في بدايات عام 1978، وكان هناك مفكر إيراني شاب له ارتباطات أساسية بجذوات تلك الثورة من خلال محاضراته وكتاباته، التي حرّكت الشباب الإيراني ضد حكم رضا بهلوي، لكنه اغتيل قبل الثورة بنحو 6 أشهر فقط، في مفارقة غير مفسَّرة بما يكفي حتى تاريخه، رغم خروج معلومات منذ ذلك الوقت، أنه اغتيل في لندن بواسطة منظمة الأمن الإيرانية (السافاك)، التابعة للنظام الشاهنشاهي.
الدكتور علي شريعتي الذي اغتيل قبل الثورة الإيرانية بأشهر إنها أفكار الدكتور علي شريعتي، الذي اغتيل قبل 35 عاماً خلال هذا الشهر تحديداً، في 19 يونيو 1977، ولم يكمل حين مقتله 44 عاماً من العمر. لا يخفى في أوساط علمية وإستراتيجية مختلفة، أن نظام الملالي الإيراني الراهن، استثمر أطروحات شريعتي المتغلغلة في أوساط الشباب كثيراً، حين أيقظ المؤشرات الأولى لشرارات الثورة، التي رُهنت لاحقاً باسم المرشد الروحي آية الله الخميني، الذي تسير على دربه الدولة الإيرانية حالياً، رغم محاولات ضئيلة من بعض الاصلاحيين، لا معنى لها – تقريباً – في تغيير مفهوم الحنق التاريخي تجاه أي تقدُّم عربي "قوي"، ولعل لجوء نظام الخميني للحرب ضد العراق بعد الثورة بسنوات قلائل تبرهن جانباً من القلق تجاه أي "قوي عربي". فكرة الحرب المباشرة تغيّرت في الذهنية الإيرانية، خصوصاً بعد أن خدمهم التحالف الغربي، بتحقيق "استعمار طويل الأمد"، انتهى مطلع هذا العام فقط على العراق لإنهاء نظام الرئيس صدام حسين. لم يستفد نظام في المنطقة، ولم يستفد أي توجُّه أيديولوجي من هذا الاستعمار الحديث للعراق، أكثر من الإيرانيين، حينما سارعوا بتقوية الداخل الشيعي في العراق، للدرجة التي ضمنوا فيها قيادة للبلاد تحت مظلة شخصية موالية مثل نوري المالكي. من أشهر محاضرات الدكتور شريعتي، من حسينية الإرشاد، محاضرة بعنوان "بين النباهة والاستحمار"، التي نشرت في كتاب لاحقاً. ولعل الفكرة الجوهرية لتلك المحاضرة تدور في جملة تقول: "إنه لمن سوء الحظ ألا ندرك ما يُراد لنا، فنُصرف عما ينبغي أن نفكر فيه كأفراد ومجتمع". وأوضح المحاضر الشاب فيما يرمي إليه وهو يؤكد بقوله: "إن امتلاك الغرب للميراث العلمي واحتفاظه بجميع الذخائر في الفروع العلمية كافة، التي بلغ بها ذروة التكامل العلمي، لا يمنعه من الخضوع أمام مجتمعات لا تملك أي نوع من أنواع الأسلحة". ولهذا يعتقد شريعتي أن تحرير "الأنا" من المتاهات الفكرية التي تحوم حولها، والعودة بها إلى "الأنا" الأصلية، "الأنا" التي ارتضاها لنا الله عندما فضلنا على سائر مخلوقاته تفضيلاً – كما ذكر حرفياً – يُعدّ أمراً لا جدال فيه "إن نحن أردنا أن ندخل في دورة حضارية جديدة، فالاستفاقة الدينية واجبة وضرورية من أجل استفاقة حضارية". ولهذا طالب شريعتي بضرورة تأسيس وعي فردي ووعي جماعي سمّاهما "النباهة الفردية والنباهة الاجتماعية"، يعملان في وقت واحد؛ حتى تكون الاستفاقة ناجحة، ولنتعدى مرحلة الدخول في الحضارة. وأكد موضحاً أنه بواسطة النباهة فردياً واجتماعياً، "نستطيع كشف الأساليب التي يستخدمها أعداؤنا، والتي من أجلها استحمرنا، أي اعتبرنا حميراً، يحملون علينا متاعهم ويسوقوننا حيثما شاؤوا". ومن وجهة نظر المفكر الإيراني، أن الاستحمار يعتمد على آليتين: أولاهما التجهيل والدفع إلى الجهل والغفلة وسوق الأذهان إلى الضلال والانحراف، وثانيهما الإلهاء بتقديم الجزئي على الكلي، أو بتقديم الحقوق الجزئية والبسيطة وغير الملحة على المطالبة بالحقوق الأساسية والملِّحة. سعت الدولة الإيرانية عبر نظام "الملالي" كثيراً لاستثمار رؤى شريعتي خصوصاً من خلال نظرية "النباهة والاستحمار"، لتحقيق فكرة الاستحواذ على الداخل في أكثر من دولة خليجية، ففعلت ما فعلته في البحرين وبرلمان الكويت، واحتلال الجزيرتين بالإمارات، لكنها لم تصل لمآربها في السعودية تحديداً. المساعي لاستثمار الكثير من أفكار علي شريعتي، أغفلت بقصد أو من غير قصد، أنه من أكثر المنتبهين لفكرة الفصل بين التشيُّع الأحمر والأسود، من خلال محاضرة شهيرة أيضاً بعنوان "التشيُّع الأحمر في مواجهة التشيُّع الأسود"، تشير إلى تأجيج نشاط شبابي ضد ما يسود إيران حالياً من فكر "بكائي" يتجاسر معتنقوه لنشره بكافة السبل في الأرجاء العربية، متى ما حانت الفرصة، ولعل الحراك في مصر خلال الفترة الفائتة بنشر التشيُّع، من خلال رصد أكثر من 500 مليون دولار لهذه المهمة، من بين إثباتات لا تُعدّ ولا تُحصى!. إغفال الصفويين لجوانب غير محمودة من أفكار شريعتي، يشير إلى إمكانية مقارعتهم من خلال نفس الإطار الفكري، عبر الأجهزة الإعلامية، خصوصاً أن ميزانيات إيرانية موثَّقة ترصد لبناء قنوات اتصال باللغة العربية، تدعم توجُّهات نظام الملالي، الذي يناضل من تحقيق "الاستحمار" – استثماراً لرؤية واحدة مقنعة لهم من آراء شريعتي – علينا كعرب وخليجيين، وعلى مقدرّات نفطنا وثرواتنا الطبيعة والبشرية. لهذا لم يكن غريباً، أن يبادر أحد مسؤولي النظام الإيراني برد مستفز لفكرة الاتحاد الخليجي كما فعل محسن رضائي الأمين العام لمجمع تشخيص مصلحة النظام، حين هدد برد حاسم في حال استمرار السعودية بذلك المشروع الوحدوي. وها هي المحاولات مستمرة لإشغال جهات القرار الدولية بما يجب أن تواصل فيه مجموعة ال"5 1" بشأن التفتيش عن المنشآت الإيرانية الخاصة بتشغيل الطاقة النووية، حتى تفعل ما تريد فعله للوقوف دون تحقيق أول وحدة نوعية متكاملة، قادرة مستقبلاً على صناعة كيان اتحادي قوي، يستطيع صناعة "الارتجاف" الحقيقي لدى صنّاع القرار الإيراني. كما تستمر المحاولات للبحث عن الموالين عربياً، مع تزايد الضغط الشعبي والدولي على نظام "الأسد" في سوريا، بوصفه أحد دعاماتهم المقتربة من السقوط. ومن المحاولات المؤسفة، نقل منطق حرب "العلويين" في سوريا إلى لبنان، من خلال ذراع "حزب الله"، من خلال إشارة توافق مع بعض مراكز القوى الإسرائيلية، التي كانت قبل أعوام "خصم حرب" لهذا الحزب اللبناني الشهير، الذي يعتمد على لسان أمينه العام !.