أكّد الشاعر والناقد المصري عبد الله السمطي، أن الشعر الشعبي في رجال ألمع خاصة، وفي منطقة عسير بشكل عام، والعالم العربي، هو "نبض الحياة"، كما أنه أكثر عمقاً ودلالةً وملامسةً لحياة الناس وأحلامهم وتطلعاتهم وأشواقهم من الشعر الفصيح. جاء ذلك خلال محاضرته التي استضافته فيها اللجنة الثقافية برجال ألمع، مساء الأربعاء، في قاعة الثريا وأدارها الشاعر مريع سوادي.
وقال "السمطي" في محاضرته: "التحولات الفنية في الشعر تنطوي على بُعدين جوهريين يتمثلان في تاريخانية الظاهرة والبُعد القيمي للظاهرة، وإن الظاهرة الشعرية حين تنتقل من مرحلة إلى أخرى فإنها تحفز على المثول حيالها لرصد خواص الانتقال وملامحه بشكل تاريخاني بالأساس؛ يهتم بالقراءة الموضوعية العامة لما تنتجه هذه الظاهرة من حيث طبيعة الموضوع المكتوب عنه والقضايا والإشكاليات التي يناقشها الشاعر وتوجهات الخطاب الشعري بوصفه حالة تداولية لا حالة جمالية".
وأضاف: "مقولة التغني بالمكان، على سبيل التمثيل، هي مقولة ظالمة على الرغم من وجاهتها الموضوعية - فلا شك - أن المكان له خصوصيته وبهاؤه، وليس شرطاً أن يتم التغني به؛ فقد يعيش الإنسان العربي في مدينة أوروبية ساحرة الجمال؛ إلا أنه يظل في حنين لمكانه وخيمته وكوخه الصغير، فالإحساس بالمكان هو الذي يصنع جماليته وليس شيئاً آخر".
وأردف: "مقولة التغني بالمكان هي مقولة نابعة من الإحساس بقيمته وصورته في النفس لكنها حين تتحول إلى أداء نمطي تصبح تكراريتها مدعاة للتساؤل؛ بل للرثاء أحياناً، وذلك كونها تصرف الشاعر عن أن يكون شاعراً بالمعنى القيمي والفني لمفهوم الشاعر ودوره؛ بل تصرفه عن أن يكون معبراً عن قضايا الإنسان ذاته عن أحزان البسطاء عن أحوال العاشقين المهمشين عن أحوال الإنسان وأشواقه".
وأشار "السمطي" إلى أن ذلك قد يبذل فيه الشاعر وقتاً وجهداً طويلين وهو يتغنى بالمكان دون جدوى، ودون تقدم رؤيوي أو جمالي مطرد.
وأردف: "القصيدة الشعرية في أيِّ شكلٍ من أشكالها الثلاثة لا تقف عند حد معين، فجرثومة التطور لا بد أن ؛ لأن صوت الشاعر لا يبقى على حال فهو صوت متغيّر متجدّد دائماً فالقصيدة تتطوّر عبر سياقين: سياق التجربة الذاتية للشاعر نفسه وسعيه دائماً إلى تجاوز أسلوبه، وسياق التجربة الشعرية العربية العامة؛ حيث إن السعي للتميّز لا بد أن يتبصر بتجارب الآخرين وفضاءاتهم الشعرية".
ولفت إلى أنه لا تثريب على الشاعر في أن يتغنى بالمكان، لكن جدل الحياة أكثر خصوبة، وأحزان العالم في مخيلة الإنسان أكثر إلحاحاً.
واستشهد الناقد "السمطي" بحوارٍ أجرته إحدى الصحف مع الشاعر إبراهيم طالع الألمعي، الذي ذكر أن طالع في حواره وصف حالة الشعر في عسير، ورجال ألمع خاصة بأنه متجاوز، ويوجد فيها أمثال شكسبير.
واستشهد أيضاً بعددٍ من النماذج الشعرية في رجال ألمع حول التحولات الفنية في الشعر بالمحافظة؛ حيث قال إن الشاعر الدكتور زاهر بن عواض الألمعي، كتب في مقدمة ديوانه (من نفحات الصبا): "هذا الديوان نبضات قلب يتألق به الوجد، ولواعج أشواق تشعشع في حنايا الضلوع وأطياف مجنحة بأمانيها العذاب في مرابع الصبا ومواطن ذكريات الشباب".
ورأى "السمطي" أن هذا المفهوم، التغني بالمكان، هو مفهوم سائد شعرياً في بدايات الشعر في عسير عامة، وفي رجال ألمع خاصة.
وتساءل الناقد" ما الذي تغيّر في مفهوم الشعر عند الشاعر إبراهيم طالع الألمعي، في مقدمته في ديوانه (سهيل اميماني) التي جاء فيها: "يتجافى عن المضاجع جنب أرق الشعر قلبه والحنين فإذا هام بالحياة زماناً قيل للدهر كن له فيكون آية الشعر أن يكون حرفاً وطيوراً مداده واللحون".
وقال "السمطي": "طالع اشترك مع زاهر في الرؤية نفسها، وهي رؤية موحدة تنطلق من القلب لتصل إلى الطيور واللحون لعالم رومانتيكي في جوهره، فرؤيتهما لم تحتف بقضايا الحياة ودرامية الواقع ومأساويته؛ بل احتفت بالمكان كمظهر في الطبيعة الجبلية والوديان ، فهي لم تجوهر المكان ولم تتعمقه ولم تصل إلى فلسفة وقلق ساكن المكان ولم ترصد حتى أفراحه أو أتراحه".
وتساءل السمطي، عن سبب إصرار الشعراء في رجال ألمع خاصة، على هذه الرؤية في الشعر ورأى أنه لا بد من تحول على نطاق القيمة وعلى نطاق الرؤية، ورأى أنه لا بد من خلخلة البنى الشعرية على المستوى الموضوعي والقيمي؛ بل إنها تحتاج إلى هزة وفورة من الأسئلة.
وقال السمطي: "ديوان سهيل اميماني فيه احتفائية شديدة بالمكان لكنها في المظهر لا في الجوهر، ولا تختلف عن رؤيته عن رؤية الشاعر الكلاسيكي، ورأى أن طالع أكد هذه الرؤية في قصائده في ذات الديوان (ارتعاش – تهامة – غيث – سهيل اميماني – حادي الشجن وداع) وغيرها من القصائد".
وأضاف: "طالع في قصيدته تهامة قدم رؤية تقليدية في تغزله في تهامة، فهو لم يكتب عن مأزق الإنسان فيها أو أشواقه وتطلعاته ورؤية الإنسان التهامي للعالم مشبهاً قصيدة طالع (تهامة) كأنها موضوع إنشاء مدرسي مطلوب على عجل".
واستثنى السمطي قصيدتَي (هجرة وضاح – وإلى رجل أعمال)؛ مؤكداً أن قصيدة هجرة وضاح فيها من الدرامية ما يحتاج إليه الشعر من خلال التجلي في الحزن والمأساة وتوظيف التاريخ الأسطورة.
وحول الرؤية في شعر إبراهيم طالع؛ قال الناقد: "الرؤية الرمانتيكية في شعره هي نفسها تمددت في أعماله؛ خاصة نحلة سهيل إلا من بعض النماذج".
وأشاد بتجربة الشعر في نماذج عبد الرحمن الحفظي، وإبراهيم شحبي أحياناً، الذي وصفه بأنه ابتعد عن الشعر، ولم يغفل تجربة الشاعر الراحل عبد الله الزمزمي، خاصة في ديوانه (هذا أنا)، ومريع سوادي الذي ينوّع بين غنائية العبارة الشعرية ودراميتها، كما في ديوانه (وشايات قروية).
وعن تجارب الشاعر محمد زايد الألمعي الشعرية؛ رغم المفارقة في عدم إصداره حتى الآن ديواناً شعرياً واحداً؛ قال الناقد: "في قصائد زايد ما يشي بالتأمل فهو على نقيض ما يتبدى من غزل المكان ومديح ظاهري.. فمنشورات زايد تؤكّد قيماً جمالية مثلى تمثلت في القلق الإنساني وقيم القبيلة والتحزب الفكري".
وأضاف: "قصيدة محمد زايد الألمعي، التي قد تدرج في ذاتيتها المتكسرة المتشظية، كما في قصيدته (في مهب الطفولة) قد تستوي في بُعدها الناقد لقيم القبيلة والتعصب، كما في قصيدة (عندما يهبط البدو)".
وقال "السمطي": "التحولات الشعرية ضرورة جمالية ودلالية وموضوعية لا بد منها؛ مؤكداً أن الانتقال من قيمة فنية إلى قيمة أخرى هو من الأعمال الشعرية المعاصرة، والشعر في رجال ألمع يحتاج إلى فورة عامة على الأقل لمضاهاة السياقات الشعرية الأخرى".
وتساءل في ختام محاضرته، قائلاً: "هل آن للشعر أن ينصرف لأسئلته البعيدة، وأن يحاصر قلقه وتمرده بعيداً عن حصار المكان؟".
وبدأت المداخلات من الضيوف الذين حضروا المحاضرة؛ حيث داخل الدكتور عبد الرحمن الجرعي، ثم الدكتور قاسم أحمد، الذي تساءل: هل يكتب الشاعر للناقد وعن خصوصية المفردة الألمعية في الشعر وتوظيفها؟ فيما استاء الشاعر علي مفرح الثوابي، من استخدام المحاضر مفردة جرثومة التطور.
وفي ختام المحاضرة، قام "السمطي" بالتوقيع للضيوف على عددٍ من إصداراته التي أهداها لأدباء ومثقفي وشعراء رجال ألمع.