في التاسع من ديسمبر 2005، صدر عن القمة الإسلامية الاستثنائية التي استضافتها السعودية في مكةالمكرمة، بيانا هاما هو الأول من نوعه في التاريخ الإسلامي، تبتنه المملكة وأقرته في القمة التي احتضنتها. جاء البيان مستشرفا المستقبل، متوجسا من مخاوف قادمة كانت ملامحها قد بدت لكل صاحب بصيرة، اكتسحت العالم الإسلامي فيما بعد على شكل حروب طائفية، محققة تلك المخاوف التي حاول المخلصون إيقافها، وكان على رأسهم المملكة. تضمن «بيان مكة» توصيات كان لابد أن تحدث انقلابا في التعايش بين الطوائف والمذاهب الإسلامية، أكدت على أهمية احترام المذاهب الإسلامية الثمانية، وعدم تكفير أتباعها، ونص البيان على الآتي: إن كل من يتبع أحد المذاهب الأربعة من أهل السنة والجماعة «الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي»، والمذهبين الشيعيين «الجعفري والزيدي»، والمذهب الإباضي، والمذهب الظاهري، فهو مسلم، ولا يجوز تكفيره، ويحرم دمه وعرضه وماله، ولا يجوز تكفير أصحاب العقيدة الأشعرية، ومن يمارس التصوف الحقيقي، وكذلك لا يجوز تكفير أصحاب الفكر السلفي الصحيح. كما لا يجوز تكفير أي فئة أخرى من المسلمين، تؤمن بالله سبحانه وتعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وأركان الإيمان، وتحترم أركان الإسلام، ولا تنكر معلوما من الدين بالضرورة. إن ما يجمع بين المذاهب أكثر بكثير مما بينها من الاختلاف، فأصحاب المذاهب الثمانية متفقون على المبادئ الأساسية للاسلام. «انتهى». اليوم ومع تداعيات مؤتمر غروزني الأخير، نستذكر تلك المبادرة التاريخية المخلصة التي دعمتها السعودية، مؤكدة أن المملكة الرسمية، لم تتبن إخراج أي من المذاهب الإسلامية من دائرة الإسلام، بل ساندت في مؤتمر القمة الإسلامية البيان الذي اعترف بصحة التعبد بالمذاهب الإسلامية الثمانية، بما فيها الأشعرية والشيعية، على الرغم من قدرتها على إلغائه وتجاهله لو أرادت. وهذا ما يؤكد دور المملكة في الدفع نحو تكريس فكرة التسامح الإسلامي، ربما ببطء، لكنه جهد محمود ضمن ظروف اجتماعية ودينية وصراعات مذهبية طاحنة. يأتي ذلك الجهد، مع وجود بعض الغلاة من كل المذاهب، الذين يكفرون الجميع، بما فيهم الدولة السعودية «السلفية» نفسها. ولذلك عند محاكمة «السلفية الحديثة»، يجب النظر إليها من خلال خطاب الدولة السعودية الرسمي، الذي يحمل حلما بالتسامح، لا من خلال خطاب الغلاة، أو خطاب التنظيمات المتطرفة، التي زاوجت بين الفكري والحزبي، وتحولت لمقاول للإرهاب والموت والخراب لمن يدفع أكثر. مع واقع اليوم لا يمكن تجاهل «السلفية»، أو «الوهابية» سمها ما شئت، أو إخراجها من دائرة السنة، فهي ممتدة على طول الخط القادم من جنوبالفلبين إلى فطاني في تايلند وإندونيسيا والهند وباكستان مرورا بالعالم العربي، حتى تطوان في المغرب وجنوب الصحراء، فضلا عن أوربا وأمريكا. هذا الجدل القائم حول «السلفية» الذي بدأ في غروزني، ولن ينتهي بمقال جواد ظريف في «النيويورك تايمز» المتحامل والمليء بالمغالطات والأكاذيب، أجد أن السعودية، وهي الزعيمة السياسية للعالم الإسلامي لخدمتها للحرمين الشريفين والمؤتمنة عليه، هي القادرة على دعم إعادة قراءة السلفية، كمشرب فقهي يؤثر على العالم ويتأثر، وتحويلها لطاقة إيجابية، والتقدم بها نحو التحديث والتمدن. إننا في حاجة فعلية لمفكر سلفي سعودي، يتبنى هذه الرؤية الفكرية المطروحة منذ تأسيس السعودية الثالثة، رؤية لا تفك الارتباط السياسي الديني، لكنها تدفع نحو فتح الباب أمام آراء دينية أكثر اتساعا وتفاهما مع فقه الواقع. فالعالم لم يعد قادرا على تحمل غلاة جهلة متوحشين، لا يفقهون علم اللغة، ولا الفقه المقارن، ولا أصول الحديث، يدعون سلفيتهم، ثم يغرقون العالم في التحريض، لا شك لكل مراقب أن المسرح الدولي يتحضر لفعل ما، قد يكبر ويلتهم في طريقه كل النوايا الحسنة، فهل نحن متنبهون وقادرون على إزاحة ما تكدر والبناء على ما صفا.