هذه بوابة كابل تلوح من وراء الأفق الممتد وانتصرت إرادتي، فوالدي رحمه الله قد أعطاني موافقته المبدئية أو بمعنى أصح أبدى بعض الليونة من موقفه السابق، لكني رأيت أني قد نلت مبتغاي وتجاوزت الأمر بسلام وتقدمت أكثر نحو تحقيق حلم الذهاب للجهاد ومن ذاك الحين بدأت أرتب كل شيء أترقب القادمين من أرض المعركة وأسألهم عن كامل الترتيبات وماذا يلزمني إذا ما حانت لحظة السفر، حرصت جداً بأن ألتقي طلائع العائدين وكلما سمعت أن أحدهم جاء من هناك أركض كي أقابله وأسمع منه وأسأله عن كل الأخبار والمعلومات والكتائب والقادة ومعسكرات التدريب وجبهات القتال وآخذ منه التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة، ولا أخفيكم سراً بأني صدمت منذ الوهلة الأولى وشعرت باختلاف آراء القادمين من هناك وتباين الاتجاهات والتوجهات وكأن ثمة شيئا تخفيه أعين القوم وتكاد ألسنتهم تفصح عنه خصوصاً عندما أسأل عن أفضل مكان أتجه إليه ولأي جبهة أو جهة يكون مقصدي. كان تباين الرأي واضحاً وثمة إشارات متضاربة وغير مريحة، لكنني حينها لم أكن أملك الوعي الكامل وليس بيدي أن أميز كامل الزوايا المعتمة وليس من اللائق أن أرى الأمر إلا من زاوية أن هؤلاء مجاهدون وبعيدون جداً عن أي ظنون، وكما يقال (وعين الرضا عن كل عيب كليلة) وبالرغم مما علق في رأسي من علامات استفهام تابعت طريقي في البحث عن أفضل ما يمكن أن أسألهم عنه، وخرجت بتصور كامل عن الجبهات والقادة والمعسكرات، نصحني بعضهم أن أقصد مدينة كُنر وتحديداً حيث يوجد الكومندان جميل الرحمن وأثنى عليه ثناء عطراً وامتدح نهجه وطريقته ومعسكراته وآخرون نصحوني إن أردت الجهاد حقاً بأن لا أحيد عن مقر بيت الأنصار الذي يشرف عليه أسامة بن لادن والذي يملك أفضل معسكرات الإعداد والتدريب وآخرون رأوا أن أنخرط مع القائد المحنك حكمتيار ورأي آخر قال عليك بأسد وادي بانشير أحمد شاه مسعود أو القائد الشهير سياف. لم أبالِ بتعدد الاتجاهات والقيادات فكنت أرى أن كل التوجهات تؤدي بالضرورة لهدف واحد وهو الجهاد ضد المحتل الغاشم فلا ضير في الأمر وكل هذا لا يعني لي شيئاً فكل الطرق تؤدي في نهايتها إلى كابل وآن لي أن أحث الخطى وأستعجل الرحيل قبل أن تضعف همة أبي ويغلق أمامي الطريق (ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي *** والموت يرقص لي في كل منعطفِ) بدأت أرتب للرحلة وأخذت ورقة الموافقة من والدي الذي لم يجد بداً من الموافقة خصوصاً مع إصراري وفتاوى العلماء التي ترى وجوب الإعداد لقد حان وقت الرحيل وهذا المجد بات وشيك الوقوع وغداً سأكون في مصاف الذين نفروا للقتال في سبيل الله. حان الوقت كي أنال شرف القتال في سبيل الله فالإجازة الصيفية على وشك ولابد أن أرتب خطة الطيران واحجز موعداً للإقلاع وأسأل عن طريقة شراء التذاكر وأسعارها، لقد كان كل شيء ميسراً حتى أن سعر تذكرة الذهاب إلى إسلام آباد وهي المحطة الأولى لاستقبال المقاتلين الجدد كانت بسعر شبه رمزي وبتخفيض يصل إلى 75% من سعرها الأصلي استلمتها شخصياً آنذاك من يد مدير مكتب إغاثة الشعب الأفغاني في مكتبه بحي الملز بالرياض كان الشعب السعودي في ذلك الحين يدعم قضية الجهاد في أفغانستان دعماً غير محدود وكانت مكاتب التبرعات تتلقى الكثير من المال والمساعدات وأذكر تماماً أن الشباب يقفون عند أبواب المساجد بأكياس كبيرة بعد صلوات الجمع والجماعات حتى لا يكاد يستطيع أحدهم أن يحمل ما جناه من تبرعات نقدية في سبيل دعم قضية كان الجميع وعلى كافة الأصعدة يدعمها بشكل كبير كانت القضية مصيرية ليست للأفغان وحدهم بل لكافة المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي والعربي والغربي أيضاً لقد كنا نراها بوابة الشرق الحصينة لمنع الاتحاد السوفييتي من التمدد غرباً حتى لا يصل شواطئ الخليج والبلاد العربية والإسلامية الأخرى بشرّه وطغيانه وعقيدته الإلحادية المضادة للدين والفطرة أولاً بل لجميع الأديان السماوية فضلاً عن الإسلام فهو يهدد الجميع وبلا استثناء والمسألة أكبر بكثير من شعب وبلد، بل هي مسألة هوية ودول ومعتقد، لذا كان الدعم مفتوحاً على مصراعيه بالمدد المعنوي والمادي وبالرجال المتطوعين من خيرة شباب الأمة الإسلامية من كل حدب وصوب تقاطروا على أفغانستان وانخرطوا جميعاً في الدفاع عنها ضد هجمة الدب الأحمرالغاشمة كان المد والمدد كبيراً بكبر المصير الواحد لذا لا غرو أن تجد الجميع في ذلك الوقت متكاتفين معاً حتى على اختلاف توجهاتهم لإيقاف تمدد الطغيان السوفييتي لذا لم أجد أية معيقات بعد إقناع أبي وأمي بل على العكس تماماً كان الدرب مفروشاً بالورد ولكل من رغب بالذهاب للجهاد في أفغانستان لم يكن هناك أي شيء يعكر صفو رحلتي المتوجهة إلى كابل، كل شيء ممهدا أمامي وزالت كل الصعاب التي كنت أخشاها والآن فقط أوشك موعد رحلة الحلم التي أنتظرها بفارغ الصبر. لم أصدق حتى الآن بأني سأذهب للجهاد، هل تعلمون في تلك المرحلة ماذا يعني أن أذهب؟ هذا يعني بأني سأكون أحد الذين حملوا راية العز والجهاد والدفاع عن حرمة المسلمين وأن أشعر بالملائكة وأشم رائحة المسك من دماء الشهداء هاهي أفغانستان مشرعة أرضها لشباب الأمة كي يدحروا جيوش وأزلام الملحدين إنه الشوق الذي ولد معي منذ مات مصعب وغير مصعب من الذين أوقدوا جذوة الجهاد والشهادة في النفوس بقصص البذل والعطاء والشموخ بعد زمان طويل من موت هذه الشعيرة الخالدة التي تتوق لها أرواح المؤمنين تلك القصص والمواقف كانت تشكل وقوداً لكثير من الطامحين فكل يوم يسقط شهيد ويزف الخبر لأهله كبطل ليتلقوا التهاني والتبريكات ويرفضوا فيه العزاء هكذا كان المشهد العام حين ذاك وأنا أحد الذين تلقوا كل هذا الرخم وأريد أن أكون أحدهم ولكم أن تتخيلوا شاباً في زهرة عمره الأولى وما زال شعر وجهي حينها لم يبدُ وقد قررت الذهاب للجهاد وحيداً إلا من أحلامي ولكم ألا تتخيلوا مدى ما شاهدته هناك من مواقف تستحق التدوين، كانت رحلتي لأفغانستان هي أول خروج لي من السعودية وسأرفق صورتي بالجواز آنذاك ومعها ختم الخروج والدخول وتأريخ الفيزا لباكستانية. * مقاتل سابق في أفغانستان محمد الضويحي*