في ديسمبر كانون الأول 1979 غزا الاتحاد السوفييتي أفغانستان وأسقط الرئيس حفيظ الله أمين لأنه لم يعجّل الانتقال السريع بالدولة إلى النظام الشيوعي الذي تريده موسكو، كان الجنرالات الروس يتوقعون أنها ستكون حربا خاطفة مهمة وسريعة وقاضية تمكنهم من هذا البلد المسلم لكنهم لم يعلموا أن هذه الحرب امتدت حتى أضحت ساحة دولية وميدانا يعترك فيه العالم أجمع ويقف خلف أرض المعركة قوى غربية وعربية والصين ودول أخرى حتى قيل أنه لم يشهد التأريخ بأجمعه حركة تمرد في العالم كالذي حظي به الأفغان ضد السوفييت. انتهت تلك الحرب الآن لكن الأحاديث لم تنته، وما زال وراء هذا الحدث الذي غير وجه التأريخ المعاصر أحاديث لم يقلها أحد وثمة قصص لم ترو وستروى وما زالت حرب أفغانستان وما أعقبته حتى يومنا هذا مثارا وحراكا تفاعليا إيدلوجيا وفكريا وراديكاليا مؤثرا لا ينتهي. ألقت هذه الحرب بظلالها على العالم العربي وتطلع نحوها الكثير من الشباب المسلم وكنت أحد هؤلاء الذين تطلعوا لها وأعلنوا النفير كهبة جهاد ممتدة في جسد أمتنا الواحدة وشهدوا المعركة على أرض الواقع لكنهم لم يحكوا قصتهم حتى الآن رغم حاجتي للكلام وحاجة أكثر للعالم أن يسمع ما نقوله نحن الذين خضنا معركة الموت والحياة هناك. آن للعالم وللإنسان وللتأريخ أن يستمع وقد جاء الوقت الذي يجب فيه أن أروي حكايتي التي ما زالت تعيش معي ردحا من الزمان حتى يومي هذا الذي أبلغ فيه سن الأربعين ونيف والآن فقط سأعود بذاكرتي المخرومة لأروي تفاصيل تجربتي في الجهاد في أفغانستان كشاهد على العصر، سأرويها كما هي دون رتوش وسأتجرد حتى من رأيي الشخصي ولن أعطي أي أحكام مسبقة ولن أقف بجانب رأي ضد آخر، سأروي أحداثها منذ بدء الشرارة حتى نهاية دخولي السجن عام 1995 سأعبر معكم الطريق وأدع لكم الحكم دون أي تدخل مني. كان ذلك في عام 1991 / 1992 حينها كنت شابا فتيا يافعا مقبلا على الحياة لم يكمل 18 ربيعا من عمره ذي حماسة وانفعال وقمة توهجي العاطفي وأريد أن أجندل العدو تحت قدمي، والآن فقط أدركت الحقيقة. مازلت أذكر بدء اشتعال حب الجهاد والقتال والشهادة في سبيل الله، أذكر تفاصيل المشهد والمكان بل وحتى الشخوص. كان المكان: ثانوية معهد الشفا العلمي، والوقت تحديدا بعد أن قضينا من صلاة الظهر جماعة في مصلى المدرسة، ها هو أحد المدرسين الفضلاء يسارع الخطى ويتخطى الرقاب من بين الصفوف وبصوت أجش ممتلئ بالحماسة والفخر والانفعال صاح بنا لقد: (استشهد في أفغانستان الطالب مصعب العوشن) كان الخبر كالصاعقة المدوية لا بل كان أكثر من مجرد خبر، أحدث في داخلي جذوة أن أكون أنا كما مصعب توقف عقلي عن كل شيء وأخذت أسرح بعيدا في خيالي وشاهدتني وأن أقف فوق جبال أفغانستان والقذائف تمطرني من كل حدب وصوب وهتافات التكبير تدوي في كل مكان أعتمر عمامتي وعلى كتفي بندقية كلاشنكوف فاتنة ومهيبة انتهت كلمة الأستاذ ولم تنته بداخلي جذوة الأحلام بل من هناك بدأ ميلاد جديد ومنذ تلك اللحظة الفارقة ولد بداخلي مصعب، ولا أدري كيف ولد لكنها هي الحقيقة. من بعد هذا لم يبق شريط أو كتاب أو خبر عن الجهاد الأفغاني إلا وقد سبقت الناس إليه، الدنيا في عيني الآن أصبحت أفغانستان والطريق المحدد في قلبي أن أكون ذاك المجاهد الذي يقدم روحه ودمه فداء للدين. هكذا كان المشهد أمامي وآن لي أن أضع حلم القتال في سبيل الله نصب عيني، كيف لا وقد كانت صورة أفغانستان في تلك الحقبة تتمثل أمام ناظري كبلد الأشاوس والنبلاء الذين قهروا الدب الأحمر، إنها أفغانستان بلد الحرية والكبرياء والشهداء وطريق الجنة الممهور بالدم، وباختصار قررت لحظتها أن أبدأ رحلة الصعود نحو جبال الهندوكوش ومغارات تورا بورا الخالدة وأن أتجه إلى أرض المعركة ومن فرط حماستي ذهبت إلى الخياط وفصلت لباسا قندهاريا وعمامة سوداء فاتنة، لقد أصبحت هناك وأنا مازلت هنا في الرياض؟ تغيرت على الجميع، وبدأت أهرع وبشغف أبحث عن القادمين من أرض المعركة أنظر لهم كملائكة يمشون على الأرض، شعورهم السوداء الطويلة ملامحهم حديثهم يقتلني تماما، أصبحت أتعمد الانطواء في غرفتي لأستمع وأشاهد أشرطة الجهاد، أبي -رحمه الله- لاحظ علي أنني بدأت أتشكل بطريقة أخرى لم أعد ذلك الشاب الذي يقتني آخر ما نزل لملك البوب مايكل جاكسون، واستبدلتها بأناشيد الجهاد المدوية (صمتا فقد نطق الرصاص وحسبنا/أن الرصاص إلى الجهاد ينادي) وفي المدرسة لاحظ علي الأساتذة سرحانا غير معتاد لم أعد محمد التلميذ النجيب؟. لقد أضحت الرياض وأصدقائي والمدرسة والبيت حتى المجتمع بأسره والكتب التي أحرص على اقتنائها مجرد لهو وعبث فهم في عيني لا شيء يستحق لأنهم لم يذهبوا للأرض الموعودة بل وبوابة تحرير المسجد الأقصى. أكاد أختنق الآن بعبرتي حينما تذكرت نظرات أبي -رحمه الله- وهو ينظر لفلذة كبده يتشكل بطريقة جديدة، كانت نظراته أكثر من مجرد نظرة وأكثر بكثير من مجرد ذكرى عابرة، كنت أصغر أولاده سنا، ولدي شعور بأني مختلف عنهم كانت تلك الحقبة قد بدأت تتشكل فيه تيارات فكرية معاصرة والحرب الباردة بين الشرق والغرب في أوجها، وكانت فترة تفتق شبابي بين جيلين جيل ذروة شباب تايلند في آواسط الثمانينات وجيل ذروة الصحوة واشتعال القتال في أرض أفغانستان وأحلام القدس المسلوبة، واخترت الأخير. وكأي شاب تستهويه أحلام التميز والحضور اللافت كنت أريد أن أكون مختلفا عن جميع أصدقائي ومجتمعي وبداخلي مشروع آخر، شيء ما يشبه البحث عن تفوق الذات شيء قريب من تحقيق بطولة هكذا كنت أفكر ولكني لست أعرف تحديد الوجهة. أركض خلف معارض الكتب وأقتني منها الكثير أحب القراءة وأبحث عن التميز والتفرد وبمعنى آخر جاءت فكرة الذهاب للجهاد مواتية لما في داخلي من جنون البحث عن الذات وها هي فكرة الجهاد تتسق مع طموحات الفتى الحالم، وآن لي أن أكون كما أحب. لكن ثمة عقبة كؤود تمنعني من الذهاب إلى أفغانستان ولا يمكنني الانفكاك منها ولا أعرف كيف أتجاوزها إلا وهي أخذ موافقة أبي وأمي. لم يكن من السهل أن يسمح أيما أبوين فكرة أن يذهب ابنهما ليخوض معركة كبرى خارج الحدود تدك فيها الجبال والعظام ويستنزف فيها الدم، مستحيل أن يوافقا ولكم أن تتخيلوا ما سأفعله حتى أقنعهما بأني سأرحل، وعليهما أن يسلما الأمر دون أن يقفا في وجهي.