حين وصل المؤلف إلى (تأويل) عرف هذه المادة المعجمية قائلا «التأويل هو تحريف النصوص عن مراد قائلها (ص 29). وهنا أتساءل: إذا كان التأويل كما في هذا التعريف فما موقفنا من تفسير الطبري الذي ينص عنوانه على كلمة التأويل (جامع البيان في تأويل القرآن) وفي طبعات أخرى (جامع البيان في تأويل آي القرآن). هل حرف الطبري آي القرآن عن مراد قائلها؟. يقتضي تعريف المادة (تأويل) هذا السؤال وإجابته هي (نع م) استنادا إلى المادة المعجمية التي تحتاج إلى تدقيق. صحيح أن هناك اختلافات بين العلماء حول هذا المصطلح، وقد اقترح بعض العلماء بأن يراد به التفسير إذا كان للقرآن أو السنة. وهناك من العلماء (الثعلبي) من قال بأن التأويل هو تفسير باطن اللفظ، وأن التفسير هو بيان وضع اللفظ من ناحية كونه حقيقة أو مجازا. يرفض أهل السنة مصطلح التأويل، وقد رفضه كثير من علمائهم أشهرهم ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) ويوافق عليه الجرجاني بشرط أن يكون موافقا للكتاب والسنة. وقد ذكر كاتب مادة (تأويل) في (ويكيبيديا) مثالا على أن أهل السنة حتى وإن رفضوه إلا أنهم يؤولون في الواقع واستشهد بما قاله ابن عباس عن قوله تعالى (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) قال ابن عباس: الماء هو القرآن، والأودية قلوب العباد. وهذا ليس تفسيرا إنما تأويل. حتى لو كان المؤلف يعتقد بأن التأويل هو تحريف النصوص عن مراد قائلها، فإن عرض المصطلح يحتاج إلى سياق هذا القول (أهل السنة والجماعة) ويقتضي أكثر من ذلك الإشارة إلى من يتبنى مصطلح التأويل كالمعتزلة والمتصوفة، وعلاقة التأويل عند المعتزلة بقضية الجبر والاختيار الإنساني. وعلاقته عند المتصوفة بفكرتهم عن التسيير والتخيير. وحتى ابن تيمية يُفهم من تعريفه التأويل احتراز. يقول: وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يُعرف به مراده، وعلى الوجه الذي يُعرف به مراده، فصاحبه كاذب على من تأول كلامه (درء ج1/ 12) ويضيف لفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول إليه الأمر(...) ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه (نفسه، ص 13). يواصل المؤلف عرض مواد معجمه، وحين يصل إلى مصطلح (التجريبيون) يعرفه قائلا: نوع من علماء النفس يعتمدون التجربة وليس النقل عمن تقدم (ص 33). ليس هذا تعريفا للتجريبيين؛ ذلك أن علماء النفس التجريبيين علماء ينتمون إلى مذهب فلسفي هو المذهب التجريبي. يعني هذا التوجه الفلسفي (التجريبية) أن مصدر المعرفة الإنسانية هي الحواس الإنسانية؛ أي أن التجريبية على الضد من العقلانية التي ترى أن مصدر المعرفة هو العقل (الأفكار الفطرية). من هذا المنظور تنكر التجريبية وجود الأفكار الفطرية، وبشكل عام أي معرفة قبل الخبرة العملية. والآن تعني التجريبية المنهج التجريبي للوصول إلى المعرفة؛ ولذلك لا تقتصر على بعض علماء النفس إنما تضم إليها علماء الفيزياء والكيمياء (العلوم الطبيعية). وهناك تاريخ طويل لهذا المصطلح منذ الفيلسوف الإنجليزي جون لوك من المفترض أن يعرض له المعجم. بعد هذه المادة تأتي مادة أخرى هي (التربية) ويعرفها على أنها عند العلمانيين هي العلم الذي يبحث في أصول التدريب ومناهجه (ص 34). وفي الواقع أنها عند العلمانيين وغيرهم هي علم يبحث في أصول تربية النشء ومناهجه. ولا يوجد حاجة إلى أن يفرد العلمانيين بالتعريف من دون تيارات أخرى كالمحافظين. كان بالإمكان أفضل مما كان. فتعريفات التربية تكاد تستعصي على العد. سأكتفي منها بما يلي: التربية هي أن تضفي على الجسم والروح كل جمال وكمال ممكن لهما (أفلاطون). التربية هي الفضيلة والتقرب من الله (الغزالي). التربية هي ترقية الفرد إلى أوجه الكمال التي يستحقها (كانت). التربية هي عملية تكيف الفرد مع بيئته (جون ديوي). تأتي مادة (التطرف) بعد مادة (التربية) ويعرف المؤلف (التطرف) قائلا: كل من دعا إلى الله عند الغرب فهو متطرف (ص 35). هل هذا هو التطرف؟ لا. فالمؤلف لم يعرف التطرف، وإن كانت الحاجة ماسة إلى تعريفه لاسيما والمصطلح من المصطلحات اليومية التي ترد في وسائل الإعلام. هناك من يطلق مصطلح التطرف ليصف به أفكارا غير مبررة. وهناك بعض آخر يطلقه (إيديولوجيا) ليعرف به أفكارا سياسية في مجتمع ما من المجتمعات. لكن بشكل عام يوصف بالتطرف أي تصرف عنيف لتغيير سياسة ما اجتماعية أو سياسية. ليست هذه تعريفات نهائية للتطرف؛ فهناك جدل حول من يستحق أن يُطلق عليه متطرف، وبلغت حملة التشكيك هذه إلى دفع البعض إلى القول إن هذا الوصف (متطرف) لا يدل على شيء ملموس. وفي أسوأ الأحوال يرسم مفهوم التطرف صورة خاطئة، لكن بعض الدول تستخدمه وتوظفه لتمرير قوانين معينة، وربما أكثر من ذلك إلى شن الحروب. *** ثم يعرف (التنوير) قائلا: التنوير يطلق على قرون إنكار الدين (ص 39). وكما نلاحظ فهذا ليس تعريفا للتنوير، وإذا ما كان هذا التعريف يتضمن معنى أن التنوير يعني إنكار الدين فهذا ليس دقيقا؛ فالتنوير لم يكن ضد الدين؛ إنما ضد تحكم فئة محددة واحتكارها الدين باعتبار التنوير تحررا من طغيان تلك الفئة. وإذا كان بالفعل هناك جانب سلبي للتنوير هو هدم الدين (فردريك كوبلستون) فإن المظهر الإيجابي للتنوير هو محاولة فهم العالم لاسيما الإنسان في حياته النفسية والأخلاقية والاجتماعية. التنوير حركة تاريخية ثقافية دافعت عن العقل البشري، وعن قدرته على فهم العالم وإدراك قوانين حركته؛ ما يعني الاعتماد على التجربة العلمية، ونتائجها العلمية الملموسة وليس الاعتماد على الخرافة. المعرفة عند التنوير قوة تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة. بدأ عصر التنوير في إنجلترا، لكن ثقله الحقيقي كان في فرنسا. فقد دعا مناصرو التنوير إلى التحرر من الخرافات والأوهام والاستبداد والطغيان، والدعوة إلى قيم الحرية والعدالة والمساواة. ويذهب الرويلي والبازعي في دليلهما (دليل الناقد الأدبي) إلى أن التنوير حلقة في سلسلة من سلسلة النقلات المعرفية والفكرية المؤثرة في تاريخ الحضارة الإنسانية. أهم رواد التنوير هو فرانسيس بيكون. وأهم ما جاء به هي صورة الأوهام العقلية التي دعا إلى تدميرها؛ لأنها أوهام تحدق بالعقل البشري، وتقيم العقبات في طريق المعرفة الحقيقية. وأيا كان ترجمتها في العربية (أوهام أو أوثان أو أصنام) فإن المقصود منها هو الأخطاء التي يجب محاربتها بطريقة فرانسيس بيكون التي تتصدى لإمكانية الوقوع في الخطأ. عدد بيكون أربعة أوهام: - أوهام القبيلة؛ أي الأوهام التي تأتي من انتماء الإنسان إلى الجنس البشري وما يترتب عليه من استحسان ما ورثه من عقائد نتجت عن عدم تفتحه الذهني. - أوهام الكهف؛ أي المنظور الشخصي والتجربة الشخصية، و البلاهة الفردية التي تفضي إلى التحيز بدلا من أن ترتفع عنه. - أوهام السوق؛ أي ضحايا الكلمات، أو ما سمي حديثا بالشعارات التي تربط الكلمات بالأشياء وما يترتب على هذا من تضليل. - أوهام المسرح؛ أي خطأ المذاهب؛ ذلك أن مؤسسيها بنوا بناء ضخما من لا شيء، وأغلقوا أتباعهم داخل هذا البناء الخرافي. وبالرغم من أن هذا التشخيص للأوهام كان في القرن السابع عشر (عاش بيكون بين عامي 1626 -1561) وفي أوروبا (إنجلترا تحديدا) إلا أنه ما زال صالحا إلى الآن؛ لأنه يتعلق بمعوقات العقل الإنساني، وهي خلاصة للنقد الشامل لتطور العقل البشري إلى تلك المرحلة التاريخية. التنوير عند كانت في مقاله المشهور ما التنوير هو خروج الإنسان من القصور (التحرر من الوصاية) الذي هو مسؤول عنه. والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد الغير. وإن المرء نفسه مسؤول عن حالة القصور هذه عندما يكون السبب في ذلك ليس نقصا في العقل، بل نقصا في الحزم وفي الشجاعة في استعماله (العقل) دون إرشاد الغير. تجرأ على أن تعرف. كن جريئا في استعمال عقلك أنت! ذاك هو شعار التنوير. الكسل والجبن هما السببان في أن عددا كبيرا من الناس يفضلون البقاء قُصّرا طوال حياتهم، بعد أن تحرروا منذ أمد بعيد من أي توجيه خارجي. وهما السببان أيضا في أنه من السهل على آخرين أن ينصبوا أنفسهم أوصياء عليهم.