يمكن استجلاء موقف رواد مدرسة فرانفكورت من مفهوم التنوير بدءا من كتابات الجيل الأول، وخصوصا كتاب جدل التنوير لأدورنو وهوركهايمر. إضافة إلى كتب ومباحث أخرى بسطوا فيها آراءهم عن التنوير. في كتاب جدل التنوير يعرف المؤلفان التنوير بأنه «تعبير عن فكرة التقدم، وأن هدفه هو تحرير الإنسان من الخوف والظلم وجعله سيدا على الطبيعة» عوضا عن بقائه خاضعا لها. وواضح هنا أثر كانط وبيكون ورواد التنوير الآخرين. فكانط يربط بين التنوير والتحرر من الاعتماد والتواكل على الغير والجرأة في استعمال العقل، وبيكون يربط العلم الحديث والحداثة بالتالي بفكرة الهيمنة على الطبيعة من خلال الإنصات لها باستعمال المنهج التجريبي. إضافة لذلك، استفاد فلاسفة فرانكفورت في فهمهم وتحديدا في نقدهم لمفهوم التنوير من مصادر عديدة أهمها: نيتشه ونقده للحضارة الأوربية، وهوسرل وهايدجر وموقفهما من العلم الوضعي والنزعة الرياضية. وماكس فيبر من خلال مفهومه للعقلنة والحداثة بوصفها فكا للسحر عن العالم. وأخيرا كان كتاب جورج لوكاتش «التاريخ والوعي الطبقي» مصدر إلهام لأغلب فلاسفة فرانفكورت، وخصوصا المفاهيم الحيوية التي أجراها في محاولته لإعادة صياغة الماركسية بلغة هيجلية، مثل: التشيؤ، التوتاليتارية، الوعي الممكن والوعي بالفعل. إضافة لاستفادتهم من ماركس الذي أخذوا عنه مفهوم الاغتراب ووظفوه في نقد المجتمع البرجوازي والثقافة الجماهيرية والإنسان ذي البعد الواحد ونحوها. يجب التذكير دائما أن الجيل الأول لفرانفكورت نشأ في فترة زمنية عصيبة، وهي فترة الحربين العالميتين وظهور النازية والفاشية والسلاح الذري. وكان هذا سببا لتشاؤمهم وكفرهم بالتنوير وشعاراته. من المعروف أن الفرانفكورتيين كانوا نقادا شرسين للتنوير.. وكان السؤال الكبير الموجه لهم هو: لماذا فشل التنوير؟ وقبل عرض جوابهم.. دعونا ننظر جليا في تعريفهم للتنوير. التنوير كما قلنا سالفا هو تحرير الإنسان من الخوف والعبودية وجعله سيدا قويا. وهذا التعريف لا يكفي، لأن الإنسان لكي يصل إلى هذه الدرجة من القوة والسيادة والهيمنة لا بد له أن يقوم بما يلي: التخلي التام عن المناهج القديمة واستخدام المناهج الحديثة النظرية والعملية.. وأهمها المنهج الرياضي والمنهج التجريبي. المناهج القديمة كانت هي الطرق القديمة التي من خلالها كان القدماء ينظرون للعالم.. وهي بالمجمل نظرة سحرية حسب تعبير ماكس فيبر والفرانفكورتيين. من هنا عرف ماكس فيبر التنوير أو «الحداثة» بأنها فك السحر عن العالم. وواضح هنا أن المراد من ذلك هو عقلنة العالم. والمراد حسب ماكس فيبر هو أن تفسير الكون لم يعد معتمدا على استحضار مفاهيم غيبية أو قوى فوق طبيعية، وإنما على المنهج التجريبي للعلم الطبيعي.. ولا يخفى أنه منهج حسابي كمي، كما أصل له غاليليو ونيوتن وديكارت. يذكر ماكس فيبر في كتابه العلم بوصفه حرفة أن «مصير عصرنا المتميز بالعقلنة والتعقل وأيضا بنزع السحر عن العالم قد أدى إلى هدم القيم العليا السامية وسحبها من الحياة العامة لتجد مكانا لها في مملكة الحياة الصوفية المفارقة». من هنا يرى مؤلفا جدل التنوير أن برنامج التنوير كان هو فك السحر عن العالم.. وأن الغاية هي السيطرة على الطبيعة. السيطرة أو الهيمنة هي الرغبة التي دفعت التنويريين إلى استخدام المنهج التجريبي والإحصائي. والعلم الجديد «المادي التجريبي» حسب المؤلفين هو علم برجوزاي، يخدم أهداف البراجوازية. والتقنية هي أساس هذا العلم. يقولان: «لم يعد العلم يهدف لإنتاج الحقيقة والتصورات بل يرمي فقط للإنتاج والاستغلال وزيادة رأس المال». هذه الرغبة في السيطرة على الطبيعة اتسعت لتشمل الإنسان نفسه؛ أي إن الهيمنة على الظواهر الإنسانية صارت أيضا عنصرا من عناصر البرنامج العلمي للتنوير.. وهذا يتجلى في اقتداء الإنسانيات بالمنهج الطبيعي.