كما هي العين في أعلى الرأس، تقع عين العرب (كوباني) في قمة الرأس السوري هناك أقصى الشمال، ورغم أنها آخر الأمتار في الأرض السورية قرب تركيا، إلا أن كرة الحرب تدحرجت من أقصى الجنوب في درعا إلى أقصى الشمال لتصل كوباني وتخرج منها بعد أن تحصد الأرض والزرع والضرع.. هنا في هذا السهل الأحمر أرض القمح والزيتون، وفوق الأرض كانت هناك مدينة تسمى كوباني.. لم يعد لها وجود على الأرض ولكن جذورها ما زالت راسخة.. من هنا مرت داعش على الأرض.. والتحالف في السماء.. لتنضم كوباني إلى قائمة مدن الحرب العالمية.. نوثق ذلك بالصور لا بالكلمات. 26 يناير انتهت عاصفة كوباني، عاد الهاربون من جحيم الحرب إلى مدينتهم المدمرة بالكامل، لا تجد شارعا إلا وشقته قذائف الهاون وجنازير الدبابات، ولا تجد بيتا إلا واخترقته الصواريخ.. مدينة قلبتها معارك التحالف وداعش ووحدات الحماية إلى بقايا مدينة.. وتساءلنا أمام النخب السياسية والعسكرية والثقافية.. هل يستحق منع داعش من دخول المدينة هذا الثمن الباهض؟. حاولنا أن نستطلع كل الآراء في هذه المدينة حول سؤال ثمن الدمار، ووجدنا جوابا واحدا لدى الصغير والكبير، ولدى من فقدوا كل ما يملكون في أرضهم هي «الموت أهون علينا من داعش». شردت الحرب «غير المبررة» على كوباني ما يقارب 60 ألفا من الأكراد والعرب وارتمت أفواج النازحين، منهم من تمكن الدخول إلى الأراضي التركية ومنهم من بقي في العراء أياما في ذروة الشتاء. لاحقت داعش حتى النازحين على الحدود التركية بسياراتها المفخخة، كان الهدف منها حرب إبادة لهذه المدينة، ويقر الأكراد أن من حسم المعركة طيران التحالف الدولي في السماء وصمود وحدات الحماية على الأرض. يقول هارون كوباني قائد الجبهة الغربية في حوار ننشره فيما بعد، كان لدينا خيار واحد هو الموت على أن نرى داعش تتجول في شوارع المدينة. ويضيف: بلغ القتال أشده إلى أن وصلت المواجهات مع داعش داخل البيوت والغرف، وكان قرار كل كردي وعربي في هذه المدينة «الموت». تفخيخ مدينة بالكامل تحولت عين العرب كوباني – المدينة التي لا تتجاوز ال7 كيلومترات مربعة - إلى مسرح حربي كوني لم يبق حجر على حجر، هذا المسرح الذي شهد أم المعارك في السماء والأرض، فطائرات التحالف تمطر الصواريخ الإلكترونية الموجهة وأرض داعش تبعث قذائف المدافع والدبابات وكل أنواع السلاح، وما بينهما وحدات الحماية الشعبية.. أما عين العرب فقد أعماها غبار المعركة. انقضت «المغول» الدواعش على كوباني في ليلة ظلماء لتحولها إلى جحيم أسود، مارسوا فيه حرب إبادة وإلغاء لأكثر من ستين ألفا ضاقت بهم الأرض لتقذفهم إلى الأراضي التركية يبحثون عن سماء بلا صواريخ وأرض بلا نار. يصف أهالي كوباني ما جرى في حربهم ضد داعش بحرب الجنون، فلا تكاد ترى شبرا من هذه المدينة إلا وله رواية مؤلمة مع إجرام داعش، استخدم هذا التنظيم أعلى درجات الإجرام والتصفية البشرية، ومع كل ذلك صمدت الإرادة أمام النار لتنتهي الحرب بهزيمة مرة لقوى الشر. يقول أحد شهود يوميات الحرب على كوباني، فقدت الحياة معناها هنا، لم نعد نعرف سوى الموت ولم نعد نشتم إلا رائحة الجثث حتى ظننا أنها نهاية التاريخ على هذه الأرض. ويستذكر يوم التفخيخ الكبير ويكاد لا يصدق ما يرويه، ويقول: حين اشتدت المعارك بين وحدات الحماية وداعش وصدت الوحدات تقدمهم قرروا حينها تحويل المدينة إلى كتلة من اللهب وأرسلوا أربعين سيارة مفخخة في يوم واحد حولت المدينة إلى رماد.. وينهي حديثه بغصة وألم: بقينا هنا حتى الموت.. وانتصرت الإرادة.. إنها حرب أفكار لا نار. إعادة الإعمار في الشهر الثالث الماضي انطلق مؤتمر إعادة إعمار كوباني في مدينة آمد شمالي كردستان العراق، ومع أن المؤتمر خرج ب16 مقترحا الإعمار، الصحة، التعليم، الزراعة، الطاقة والبنية التحية وغيرها.. إلا أن كل هذه المحاولات لن تغير في حال المدينة.. في كوباني الناس بلا كهرباء.. بلا ماء.. فيما يقبع الفرات على مسافة 150م على مقربة من مناطق سيطرة داعش.. في كوباني موت بطيء أمام أنظار العالم. ومع ذلك يعول الأكراد على الإرادة التي هزموا بها داعش على أسوار المدينة، في إعادة إعمار مدينتهم، كيف لا وهذه المدينة بلاد المعماريين لكل سوريا، إنها أكبر طاقة بشرية وفنية في مجال الإعمار. وقد بدأت الإدارة الذاتية التي تحكم كوباني بورشات عمل سنقف عندها كثيرا في حوار مع رئيس الإدارة الذاتية أنور مسلم. يدرك الأكراد أنهم كانوا وما زالوا رأس حربة دولية في مواجهة إرهاب داعش، وأنهم وقودها في هذه المواجهة الكونية مع قوى الإرهاب والظلام، إلا أن لا خيار لهم سوى القبول بهذا الأمر الواقع.. إنها حسبما يقولون حرب فرضت علينا ولن نطأطئ رؤوسنا أمامها.