عن مطابع الشركة الشرقية بالدمام صدرت مجموعة قصصية بعنوان (صوت الرمل) على نسق القصة القصيرة جدا للقاص الأستاذ جاسم علي الجاسم، السعودية. والقاص الجاسم من الكتاب المتأخرين الذين ظهروا في الساحة القصصية بمجموعته الأولى في القصة القصيرة (شيطان الحب)، ثم ألحقها بهذه المجموعة للقصة القصيرة جدا (صوت الرمل)، فهو كما نعلم قد قضى زمناً طويلاً في الصحافة ثم لجأ مؤخراً إلى القصة بنوعيها. المجموعة المكونة من (52) قصة، وفي 110 صفحات، من القطع المتوسط، بعد قراءتي لها، أجد كاتبها يندرج تحت صنف كتاب القصة الذين لا يلتزمون بالقواعد المتبعة فنياً في الكتابة القصصية، بل ممن يحاولون اجتراح طريق جديد يستوعب رؤاهم وأفكارهم وموضوعاتهم. ولذا بدءاً من العنوان (صوت الرمل) وهو عنوان تتوفر فيه كل شروط العناوين الجيدة من إيجاز وإثارة وجذب للانتباه، بالإضافة إلى التعبير عن المضمون بنحو مميز، عنوان يريد أن يقول: أنا الفكرة. لذا نحن جئنا نسأل: ما هي هذه الفكرة؟. بقراءتي المجموعة، وجدت أن هذا العنوان قد أخذ من أحد عناوين القصص للمجموعة، وهو عنوان إيحائي بالدرجة الأولى، وإذا اعتمدنا على الصور التي يكونها لنا العقل الواعي المباشر، نجد بأن المقصود هو الصوت العادي للرمل، الذي يحدث جراء حركته أو اصطدامه بموجود آخر، لكن هذه الصورة في الواقع المجازي أو الإيحائي للأدب، أو للقصة تحديدا، صورة ساذجة، إذ لا تعطي شيئا دلاليا يصل بنا إلى المعنى الحقيقي الذي قام وانبنى عليه السرد الذي تتضمنه هذه المجموعة. من خلال تطلعنا إلى مكونات السرد في المجموعة أراها تندرج في داخل الحكاية الأقصوصة، وتذيل كتابيا ضمن (القصة الومضة) أيضا، حيث إن بعضها لا يتجاوز الثواني في قراءتها، وتحتاج إلى حرفية عالية في الإمساك بفكرتها، ومن ثم إيضاح الصورة الماثلة خلف الحكاية من خلال خيال جامح وتكوين صورة فوتوغرافية تعلو كثيرا عبر الحاسة السادسة لتكشف لنا وتسبر غور الجوهر، فتبقى في الذاكرة من بدايتها إلى نهايتها، على الرغم من قصر الزمن وعدد الكلمات واختفاء تلك العناصر الفنية. ومن هنا سنتقصاها في: أولا: الإهداء: يقول في الإهداء: (إلى من اغتالها الموت في ريعان شبابها) وهو المادة الأكثر معطى إيضاحيا للصوت الرملي.. ولولاه لما بانت لنا حالة النهوض الخارجة عن سياق الطبيعة إلى سياق غير طبيعي محله الإيحاء بأن ثمة شيئا في الوراء، حيث نرى أن الموت الذي جاء بطريقة قاسية جدا وهي الاغتيال في ريعان الشباب لروح طاهرة لم تهنأ، بل (ما زال قلبها نابضا فينا)، كما يذكر القاص في الإهداء أيضا، يحدد لنا أن الصوت هنا هو صوت هذه المغتالة عنفاً، بل يكون معنا أكثر وضوحاً، فيقول لنا هي الحبيبة الغالية (سعاد). و(سعاد) بحكم صداقتي الحميمة مع القاص أبوفيصل، فأنا أعرف من هي؟.. وكم تمثل له؟.. هي إحدى بناته الأعز على قلبه، والأقرب إلى روحه، الزمن لم ينصفها، فتركها تعاني كثيراً من المرض سنوات كثيرة، فكانت معاناته معها معاناة قاسية مجهدة مضاعفة، خاصة في كبر سنه، وضعف نظره، راح يتنقل بها من مشفى إلى آخر، يحمل جسدها الضامر، ويواسي ألمها المستفحل، ويسكب دموعه عليها دماً، بينما يراها في كل لحظة بين يديه تذوي كوردة تعصف بها رياح الخريف الهائجة، ثم ما تلبث أن رحلت، مخلفة طفلين في عمر الزهور، بهما تترك الألم يتجدد ويساور النفس في كل لحظة ترمقهما العين. ومن هنا سعاد تكون هي الصوت، صوت الرمل، الرمل الذي أصبح هو الأمر الطبيعي في حياتنا الطبيعية، في المشاهدة والملامسة والمحاكاة، عوضا عن تلك التي كانت لها تلك السمات في يوم حياتها.. نعم أصبح الرمل له صوت لمجرد أن احتوى جسدها، وبقي قلب أبيها نابضا يسمع صوتها من تحت الرمل كلما كان في المواجهة، الأمر الذي أفرز لنا سرداً في ثيمته الأليمة أبعاداً أخرى يجمع مضمونها (الفقد) في صورة رمل يحدث صوتا. ثانيا: عناوين القصص: (العناية المركزة) (بكيت) (حين ناديتم الموت) (واختفت) (الضيف).. كلها عناوين مؤلمة، تشير إلى هذا الصوت المتحدم للرمل، وبالتأكيد هي مضمون كلي للنص الذي هي تاجه، إذ أننا نعلم أن العنوان ليس لفصل نص عن نص، بل هو المضمون كله أحياناً إذا لم يكن هو جزء لا يتجزأ من النص ومكمل له.. هذه العناوين، إلى جانب ما تحمله المجموعة من عناوين أخر، فيها إثارات أخرى تبقى قيد الألم في معطياتها (الأمل الطويل، الكبرياء، التهكم)، رغم ما هي عليه من بساطة في تكوينها اللغوي، ومن البساطة ما هو ممتنع لدى الكثير. فعن طريق الحفاظ على البساطة، يمكن إيصال الرسائل المطلوبة على نحو مفهوم أسهل، وإن كان بعض هذه العناوين يحاول أن يترجم عن طريق تفاصيل النص للحفاظ على روعته ودهشته كعنوان (الصديق، أو العانس أو الماسورة، أو إقالة أو الوصية) التي تتخذ (أل) التعريف فتتركنا نتساءل: (ما ذا بها الماسورة؟) مثلا، فتأتي القصة موضحة هذا المطلب. ثالثا: النص القصصي: كيف يمكن أن يفسر لنا النص القصصي هذا الصوت؟.. بقراءتنا ليس لمجمل النصوص، بل أغلب النصوص سنرى أن نص (س) تحديداً في حالته البحثية عن شخصية سعاد من بين تلك الفتيات، أكبر معبر عن هذه الفكرة المتمثلة في الفقد، والتي توضح لنا هذا الصوت.. أين سعاد؟.. فتأتي الإجابة الصامتة، لنجيب نحن القراء ب (سعاد ماتت).. أي احتواها الرمل فكانت صوته، لقد أصبح الرمل هو المتحدث عنها في دهاليز أعماقنا، وهي طريقة جديدة حقيقة في التناول، سابقة يقدم عليها الأستاذ الجاسم، معبرا بها عن الفقد في ثوب سردي محكم يترك الألم دون أن يبوح مباشرة، ومختصر جداً، مرتكز على الحوار فقط، وليس على تفاصيل الحدث المتمثلة في الزمان والمكان والشخوص وحركتهم. يقول تولستوي: (لا يوجد أديب يفيض قلمه بسهولة بغير متاعب) لأن الكتابة صعبة وكلما كانت صعبة جاءت نتائجها طيبة. ومن خلال هذا النص، ولا أدري إن كان الجاسم واعياً أم لا؟.. فإنه يقدم لنا في فن القصة القصيرة جدا أنموذجا لهذه الكتابة الصعبة التي تحدث عنها تولستوي، إذ أن هذا الفن يحتاج إلى موهبة خاصة وقدرة فائقة لأنه يستعصي على غير الموهوبين المتمكنين من أدواتهم الفنية الذين يدركون أهميته ويحسنون توظيف آلياته وتقنياته توظيفا يحقق الإبداع والإمتاع معا. ومن هنا أجد أن قصة (س) وغيرها من القصة في المجموعة كقصة (اللوحة) قد نجحتا في فرض شكلهما على السرد، لإبداعهما الجميل، الإبداع المكثف القصير الذي يتقوى يوما بعد يوم وينفتح على مختلف التجارب الأدبية التي جعلها تجتذب عددا كبيرا من الكتاب الذين وجدوا فيها ضالتهم المنشودة للتعبير عن أفكارهم وإبراز إبداعاتهم، بما فيهم أستاذنا الجميل أبوفيصل، في هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا، التي تميزت بالتنوع الموضوعي. هذه القصص التي مجملها كتبت في وقت قياسي، وأغلبها عن سعاد أيضا، إذن إنها الذاكرة الحية الوفية لها، حيث لم تكن سعاد محمولة جسدا بين كفوف الراحة، بل كانت محمولة في كل خطوة من خطواتها في الذاكرة التي تأبى أن تتخلص منها، فأبت في مشوارها الودي والوفائي أن تسطرها حروفا سردية، أصر الجاسم على أن يطبعها سريعا، ليقدمها هدية لها في ليلة التأبين (يوم الأربعين) من رحيلها. من هنا أعتقد أننا فهمنا ما هو الصوت الذي يلقيه إلينا الرمل، ولذا بقي أمر أخير أود التركيز عليه، وهو ما ذكرته في المقدمة بأن نصوص المجموعة هي نصوص مرتكزة على الفكرة وليست العناصر أو الخصائص للسرد، وهذا التخلي رغم مشروعيته لدى البعض إلا أن البعض الأغلب لا يجيزه في أي من الأنواع السردية، إذ يرون أن السرد سيتحول إلى كائن مختلف، ربما لن يكون خاطرة أيضاً كما ينحو به البعض، إذ أن الخاطرة أيضاً لها قواعدها وعناصرها التي تقوم عليها. الفكرة وهو الهدف الذي يحاول الكاتب عرضه في القصة، أو هو الدرس والعبرة التي يريد منا تعلمه؛ لذلك يفضل قراءة القصة أكثر من مرة واستبعاد الأحكام المسبقة، والتركيز على العلاقة بين الأشخاص والأفكار المطروحة فقط، وربط كل ذلك بعنوان القصة والشخوص وطبقاتهم الاجتماعية. وقصص صوت الرمل قصص تحاول اكتمالها عبر الموضوعية والفكرة إلى جانب الصراع والحبكة اللذين تتبناهما، لذا تجد النهايات هي أشبه بعصارة الألم وشحذ همة القارئ في تفاعله وتأثره. والقاص الجاسم انتحى هذا المتجه ليقدم لنا قصصاً ذات أهداف اجتماعية وثقافية أيضاً مجملها تؤدي إلى الألم، إذ ما تخرج من نص يحكي لك حالة الآدميين الجياع الذين ينهشون في الآدميين أمثالهم، أو حالة فرض القوة أو إثباتها من خلال المرأة الضعيفة، فإنك تخرج بنص يحكي لك بأنه لا أحد يهتم في احتواء أفكار الكتاب ونشرها، أو سقوط اسم المحرر من الجريدة لكونه ربما فسح مقالا لا يجوز له الفسح... وهكذا. أخيرا، تبقى مجموعة القصة القصيرة جداً (صوت الرمل) فيها ما فيها من دلالات إبداعية مدهشة، وتظل أيضا القصة القصيرة جداً فنا ليس من السهولة بمكان العمل عليه وفيه، أو سهلا لمن يستسهله، فيكتب جملا تدخل في إطار ما يعرف بالكتابة الهلامية أو الضائعة التي لا تدل إلا على اللاشيء، فيعتقد صاحبها أنه دخل صرح القصة القصيرة من بابها الأوسع. كما أنه ينبغي أن نقول: إن رواد هذا الفن في عالمنا العربي قلة قليلة. أما الكثرة الكثيرة فهي من تكتب خارج دائرة هذا الفن. وتعتقد نفسها أنها داخل الدائرة في غياب النقد والمتابعة.