لا أدري كلما أعدت قراءة الشاعر الراحل عبدالله باهيثم أخرج بلغة حزينة؛ لغة حزينة تسكنني من جهة، ولغة حزنٍ قلقة تسكن كلماته التي تتمدد أمامي في تصاعد إبداعي خلاق في معظم نصوصه الشعرية.. ترى هل للظروف الموجعة التي مر بها الشاعر والصحافي باهيثم والحالة المرضية المؤلمة وقسوة الحياة وعبوس الزمن كان لها مجتمعة كل هذا التأثير على وعيي وأنا أقرأ شعره ونصوصه التي تمثل تجربة عميقة على مستوى كتابة النص الشعري الحر وهو الذي لم يأخذ حقه من الدراسة والقراءة والتحليل فهو حين كان (فتى فهو لايشبه إخوته/عصبة قانعون/وذا مدلج بالتوجس/يزعم أن الصعاليك قد ضربوا موعدا للصباح هنا).. يقول متسائلا في قصيدة من ديوانه وقوفا على الماء: _ من أكون أنا.. _حلم .. قيل أمك راودها النخل إذ حملتك فأبدلت إرث البكاء فماللغناء.. ومازلت منذ صبأت.. تعاقر هذا التراب.. لغته الشعرية متجاوزة من حيث الحضور والتكثيف ولعلنا نكتشف معه عوالم شعرية جديدة غير السائدة الملقاة في طرقات الشعر والقصائد المفتوحة. في قصيدة (السفر ) بكاء شفيف وغناء موجع ورؤية غامضة تشبه هذا الأوان المثقل بالغموض يقول: أغتسل الآن من عدمي وأطاول موتي. فأبصر خلف المدى وطنا جاريا وجباها تفوح هوى أسمر.. ونساء كنت ما بين غافٍ على نصف حلمٍ وناءٍ إلى نصفه ليس إلا الغناء! ثم استقمت.. وغنيت. إلى أن يقول: ( وش حد صبحك عن مساريك بالليل وانته على ماقيل حادي وخيال والوقت وقت اللي على طاقة الحيل ياقف لياصار البخت عنه ميال) وغنيت.. غنيت.. يا أيها الواقفون على مشرق الغيب شدوا على أفق هذي التلال النشيد فأقسم أن الذي تتناءى به العين في العين مازال مشتجرا بالحديد.. في نص السفر حالة وجودية من حيث هي رؤية شعرية تتصالح مع ذات الشاعر الجامحة ونداء وأسئلة للمستقبل والحاضر معا وغناء يزرع التساؤلات ويحاول استنبات أجوبة من عدم الأشياء.. ويأتي الشاعر عبدالله باهيثم يرحمه الله في نص (حدس) فيقول: وكنت ألوذ مابيني وبيني ببعض هوى تغرب ثم عادا على مهل وحط على شغافي ونقر إذ سجى الليل الفؤادا فملت لعلني أصغي.. فأومى إلى من الأماكن ثم نادى: _ أتوجس؟ قلت برد الحزن حتى انطفأت وحلت عن بعضي رمادا. ويقول: وأشرعت المدى لصهيل حدسي فضج الأفق حين هوى ومادا.. في هذا النص لم يطرح الشاعر أسئلة الرؤية غير أن البناء العمودي للنص ورغم غنائيته الجميلة إلا أنه لم يتسع لاستيعاب حدس وظنون الشاعر المثخن بالحدس في أفقه العريض لكن عنوان النص يحيلنا بقوة إلى فضاء الرؤية.. ولعلنا في قراءة قادمة نمضي وقتا أكثر وجعا مع نص (ديمة) وهو الذي كتبه باتجاه ابنته ديمة حيث سكب لنا الشاعر وداعية مليئة بالحزن النبيل.. رحم الله عبدالله با هيثم الذي رحل قبل اكتمال الحلم يحمل حزنه الذي لايشبه أحزان الشعراء..