أثارت وفاة والدتي رحمها الله صدمة إضافية لي خلال أقل من عامين على وفاة ابني الغالي معتز رحمه الله. وإيماننا بالله وقدره هو السلاح الذي نشهره في وجه هذه الأحزان وهو الماء الذي نغدقه على لهيب نار الفراق لتطفئه أو لنقل تقلل منه إلى أبعد حد. ويبقى شريط الذكريات الجميلة يعمل على مدار الليل والنهار، محفوفا بدموع صامتة لا تخرج للعلن، نتوجها بعبارة الرضا والقناعة بما قدره المولى جل جلاله. عاشت والدتي الغالية السيدة جواهر محمد زين العابدين طفولة بائسة بعد وفاة والدتها وتبعها وفاة والدها لتتربى عند خالتها قبل أن تتزوج والدي المرحوم عبدالله سرور الصبان. وبزواجها بدأت مرحلة الاستقرار بالنسبة لها، وتتابعت ولادة أبنائها وبناتها لنضيء لها حياتها في كنف والدنا رحمه الله. وفي ريعان طفولتنا وبلوغ بعضنا مرحلة المراهقة حتى توفي والدنا، فكانت صدمة لنا جميعا خاصة أن أكبرنا لم يتجاوز الستة عشر عاما. وكنا ننظر إليها فنجد في عينيها عمق المسؤولية التي تحملتها. فأمامها أطفالها يحتاجون إلى رعاية دقيقة، لتغرز فيهم مبادئ الدين والأخلاق كما بدأها والدنا، وتدفعهم ليحصلوا على أفضل تعليم يؤهلهم ليكونوا ممن يشارك في بناء الوطن الغالي. وكما ذكرت شقيقتي الدكتورة خديجة في مداخلتها المختصرة في «عكاظ» يوم وفاتها، فإنها لم تكن تتجاوز الثلاثين عاما من عمرها حين توفي والدنا رحمه الله . وأذكر تماما تتابع المتقدمين لها ليتزوجوا منها فكانت ترفض الواحد تلو الآخر، وتبلغ الوسيط من سيدات المجتمع بأنها ستنكب على أبنائها لتربيتهم، ضاربة المثل الأعلى للتضحية وحبها العميق لأبنائها وبناتها. ونحن وإن كنا أخذنا رفضها الزواج بأنه أمر بديهي وقتها، إلا أننا الآن ندرك حجم تضحيتها رحمها الله. وبالرغم من الاهتمام والعطف والرعاية الكبيرة الذي شملنا به عمي محمد سرور الصبان رحمه الله بعد وفاة الوالد، إلا أن مشاغله الكثيرة لم تمكنه من متابعتنا يوميا، تاركا هذه المسؤولية الكبيرة على كاهل والدتنا الغالية. وشكل سفري فيما بعد إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية لإكمال دراستي العليا عبئا إضافيا عليها خاصة بعد أن بدأت أشاركها بعض مسؤولياتها، وأذكر إطلاقها العنان لدموعها لتنهمر بغزارة حينما قرب موعد سفري، وهو أمر لم أكن أستطيع تأجيله، ولم تكن هي أيضا ترغب في ذلك، فهي تعرف العائد الكبير من مواصلة أبنائها جميعا لدراستهم العليا. فهي بالرغم من محدودية تعليمها إلا أنها رحمها الله امتلكت رؤية واضحة لما ترغب أن يكون عليه أبنائها وبناتها. وفي أول عودة لي من أمريكا لقضاء إجازة الصيف معها ومع إخوتي، فوجئت بوجودها في المطار لتكون في استقبالي مع إخوتي، وعيناها مليئتان بالمحبة والحنان. وبالرغم من سفرنا معا إلى الخارج في العديد من الإجازات، إلا أن زيارتها لي في مقر دراستي في أمريكا وقضاء الإجازة معا وإخوتي، كانت أسعد لحظاتها، وكانت تتسلل إلى الحديقة الكبيرة المجاورة لمنزلي هي وحفيدها الوحيد وقتها المرحوم ابني معتز الذي لم يتجاوز وقتها الأربعة أعوام لتقضي أسعد لحظاتها معه حتى في ظل زخات المطر التي كانت تهطل في معظم أوقات الصيف قبل أن نستيقظ جميعا ونتناول الإفطار معا، ومن ثم نكمل برنامجنا المعد سلفا. وحرصت رحمها الله أن تكمل شقيقاتي دراستهن العليا وتدفعهن إلى عدم التراخي، وهو ما حدث بفضل الله ثم بفضل تشجيعها لهن. والدتي رحمها الله ضربت أروع الأمثلة في التضحية والحنان والعطف مع الحزم في التربية، ووضعت لنا خطوطا حمراء لا يمكن لنا تجاوزها على الإطلاق ونعرفها جميعا. مرضها الأخير أقعدها لسنوات طويلة، ولكنها كانت تراقبنا بمحبتها المعهودة، وتردد على أسماعنا عبارتها المشهورة «سعادة الدارين» كناية عن الدعاء لنا بأن يسعدنا الله في الدنيا والآخرة. وأشعرتنا قرب وفاتها برضائها التام عن كل واحد فينا، وننظر إلى عينيها لنجد هذه الرسالة. وكأنها تقول لنا «قد أديت واجبي نحو إحسان تربيتكم والآن أكملوا المسيرة مكللين برضائي عنكم جميعا». أمي الحبيبة، لقد تركت لنا فراغا كبيرا لا يملأه أحد وسنظل نذكرك مدى حياتنا فخورين بك وبما قدمتيه لنا جزاك الله عنا ألف خير وأسكنك فسيح جناته. وإنا إن شاء الله بك لاحقون في جنة الفردوس نجتمع معا. شكرا، شكرا، شكرا، شكرا، والدتنا الغالية رحمك الله رحمة الأبرار وأسكنك فسيح جناته. وإنا لله وإنا إليه راجعون.