هذا الرداء الأبيض.. الذي ترتفع معه أفئدة الناس وأكفهم داعية مبتهلة خاشعة طالبة الرحمة والمغفرة من خالقها. وهذه القلوب البيضاء التي خلت من كل شوائب الدنيا وآثامها وأحقادها.. واتجهت بكل مشاعرها ودموعها وأحزانها إلى بارئها جل وعلا الذي وسعت رحمته كل شيء. كل هذه الجموع القادمة من كل أنحاء الدنيا لتقف بين يدي الله في عرفات وقد اتحدت في ردائها الأبيض «الإحرام» فلا تميز بين الغنى والفقير ولا الأبيض أو الأسود.. أو الكبير أو الصغير.. كلهم جاؤوا إلى باب واحد أحد يطلبون عفوه وغفرانه. لقد ترك بعضهم خلفهم الأرض تلتهب والنيران تشتعل.. وبشر إزاء بشر يقتلون ويقتلون.. أناس لا تكف حروبهم ولا أحقادهم ولا صراعاتهم. ولكنهم عندما قدموا إلى هذه الأرض الطاهرة.. نسوا كل أحقادهم وكل نزاعاتهم وخلافاتهم وحروبهم المدمرة.. واتحدوا في صوت واحد « لبيك اللهم لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك » .. وارتدوا ذلك الرداء الواحد.. اتحدوا في كل شيء.. بعد أن كانوا مختلفين في كل شيء. سبحان الله ما أعظم حكمته.. ورحمته.. وغفرانه.. إنه يذكرنا بذلك الرداء الأبيض.. الذي سوف نرتديه عند لقائه سبحانه عندما تصعد النفس إلى خالقها.. إنه «الكفن». هناك في القبور كل الناس يرتدون رداء واحدا وبلون واحد مثل يوم عرفات الذي يرتدي فيه الحجاج الزي الواحد وهو الإحرام. والمسألة باختصار.. إنه لا فرق بين رداء الحياة «الإحرام» ورداء الموت «الكفن» كلاهما أبيض.. وكلاهما بلا جيوب.. ولكن الإحرام هو لباس الخاشع الراكع الساجد المتجه إلى من خلقه طالبا عفوه.. والإحرام في الحج هو بطاقة المرور الآمنة في القبر وفي الفردوس الأعلى لمن رضى الله عنه.. وحينها يصبح «الكفن» والقبر أكثر اتساعا لمن رحمه الله وعمل خيرا في دنياه.. ولم يتجبر ولم يتكبر.. ولم يتعجرف.. ولم يتعال على الناس. ورسول الهدى والمحبة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» .. ويقول بعض الحكماء: من كبر الكرسي والمنصب في نظره صغر الناس في عينيه.. ولا أزيد.