يأتي الوقوف مع النفس ليدفع الإنسان إلى أقسى درجات التأمل.. الصمت الذي يعيد بداخله ترتيب الأمور التي لم يستطع أن يراها بشكلها الواضح، فيسكن الضباب بصيرته ويمارس كل عاداته، سلوكياته، أفعاله دون تأمل منه، يحدث ذلك حينما ينجرف المسلم في أيام الحياة التي يعيشها دون أن يتنبه إلى درجة الوقوف التي لابد أن يخوضها ليعيد فيها توازنه.. وتغير ذاته. وفي "يوم عرفة" يقف المسلم العابد الذي ارتدى البياض ليعيشه في أعمق حالاته، ينظر للدنيا من نوافذ مفتوحة وبرؤية تزيد بداخله من فكرة التخلي عنها فقط، حتى يحصل على توقه النهائي من الوجود وهو "قبول الله"، فيتحلق حول فكرة التحرر من كل شيء، من أجزاء صغيرة تعلق قلبه بها، ومن قطع ممتدة يبنيها بداخله ليعيش الأمل الطويل الذي يتعلق به، فيتغير ذلك عندما يعيش الحاج بروح صاعدة إلى الأفق الشاسعة، التي تمنحه الانطلاق نحو الألوان الأكثر غيماً ومطراً. مشهد عظيم ويغتسل الحاج "اغتسال روح"، ويكسو قلبه كسوة البياض، وهو المعنى العميق للتجرد الذي يعيد المسلم إلى مرحلة التأمل السابقة التي يعيشها هنا بأكثر من قلب، وعند حافة اليقين، الذي يتشكل من موقف الوقوف عند "عرفات"، المشهد العظيم الذي لا يغادر ذاكرة المسلمين جميعاً، يهز الأفئدة ويمحو عن النفوس تكبرها، لتنمو بداخلها قمة التضرع والخوف والرهبة والرغبة، في حالة تعطى فقط من عند الرحمن، الذي أمر عبادة أن يحجوا للبيت العتيق، ويحيوا مناسك الحج، ويؤمنوا به ويعظموا بيته العتيق، فينعكس ذلك النسك في جميع التفاصيل التي يستشعرها المسلم ابتداء من الإحرام وعقد نية الحج، حتى الذهاب إلى منى، حيث عرفات، وصولاّ إلى رمي الجمرات والذبح والتحلل من الإحرام. صفاء روحي عبادات منظمة ومرتبة جعلها الخالق نسيجاً من الارتباط، الذي يأخذ العبد من مرحلته الدنيوية إلى طريق يوصله إلى الآخرة وهو فائز وسعيد، مطمئن بحالة الحج التي تغسله من العمق وتعيده مخلوقاً جديداً بلون ووجه يعانق الصفاء الروحي، الذي يعمق من مفهوم الإيمان لديه، ليعود إلى حياته الدنيا ممتلكاً موثقاً أن تتحول لديه تلك الحياة، وينطلق من النقطة الحاسمة التي تغيره وتغير لديه كل شيء، وهنا تفتح أبواب الرزق، وتعود نوافذ التوفيق تتسع ليبصر الحياة الشاسعة بعد رحلة الحج، بعيون بكت كثيراً في ذلك الموقف لتتطهر، ولتخلق من حيث انتهت، حينما أذنبت وجاءت لتتنقى في مجمع عظيم، يجتمع فيه المسلمون جميعاً "حجاجاً" إلى بيت الله الحرام، الذي جعله الله سبحانه قبلة المسلمين وأشرف البقاع على وجه الأرض. حياة جديدة في يوم منى تبدأ رحلة الحجاج في الوصول إلى تنقية الروح والاغتسال بها في البياض والتقرب إلى الله، ليتحقق الامتداد العميق للتطهر من كل الآثام والخطايا، فيعيش الحاج موقف الرهبة والرجاء والخوف، فيندم القلب ويلهج اللسان بالتكبير ليعيش الحجاج حالة التجرد الروحي من كل شيء سوى من البياض، الذي يكسو أجسادهم، ويسكن أرواحهم في هيبة "يوم عرفات"، وهو اليوم العظيم الذي يقبل المسلمون جميعاً عليه بقلوب مليئة بالخشوع والرجاء والرغبة في القبول، الذي يصل بهم إلى أعلى درجات التطهر والرقة، التي تجعل من القلب نبتة صالحة تعيد بناء حياة الإنسان من جديد. وحدة كبيرة وفي يوم عرفات تكتمل مفاهيم الحج الكبير؛ فيتقرب ضيوف الرحمن إلى ربهم بالتكبير والوصول إلى أقصى مراحل الابتهال لخالقهم، فهذا اليوم هو عيد للمسلمين، واستعداد لإحياء سنته في ذبح الأضاحي، أنه اليوم الذي تثمر فيه عبادة الأرواح وتزال فيه الذنوب والخطايا الكثيرة للإنسان، أنه اليوم الذي يأخذ فيه المسلم العبر والدروس والتأثير الكبير عليه، فيعيش حالة التطهير تلك بقلب عائد للرحمن، فيتذكر في هذا الموقف العظيم إسلامه ونعمة الإيمان التي منَّ الخالق عليه بها، حتى يصل للعودة إلى العبر والدروس من هذا الموقف العظيم، فيجدد العهد بالله حامداً له على نعمة الإسلام. في منى يجتمع الحجاج في يوم عرفات على صعيد واحد في مشهد عظيم يحكي وحدة المسلمين عرباً وعجماً وشعوباً وقبائل وفئات، في اجتماع عظيم يرغبون فيه باللجوء إلى الخالق، استجابةً لأمره وطاعة لأوامره، وإحياءً لهذه الشعيرة العظيمة، وتأييداً لأبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام في نُسكه الذي أدّاه، عائداً لله فيه ومبتهلاً بإخلاص المؤمن، يشعر الحاج بالوحدة الكبيرة التي تربطه بالمسلمين كافة، فيتوحد لديه الهدف والشعور والحال، حتى تصبح تلك الجموع أمة واحدة لهدف وشعيرة واحدة. نفوس خاشعة ويتوافد في اليوم الثامن وهو يوم "التروية" زوّار بيت الله الحرام إلى منى للوقوف في عرفات، وهو اليوم التاسع الذي يعيش فيه كافة الحجاج الموقف الرهيب في لحظة يشهدها العالم بأكمله، يكبرون الله ويجددون القلوب التي تعيش عظمة الموقف، فترق وتجثو وتبكي تضرعاً لخالقها، في موقف يعيش تأثيره عامة وكافة المسلمين، الذين يعيشون ذات الرهبة لهذا اليوم، فيجوعون فيه بالصيام تهذباً ورغبة في طلب الأجر والثواب من عند الرحمن، فيعيشون التهيئة الكاملة للجسد والروح، ليقبلوا على خالقهم بنفوس خاشعة ذليلة، تطلب المغفرة والعفو، وتتجاوز مراحل الخطايا إلى مرحلة التضرع، الذي يشارك فيه الملايين من الحجاج، في يوم يبدو عظمته في التكبير الذي لا يتوقف لدى رحاب عرفات وفي منى، بل يطال جميع مناطق العالم، فالجميع يعيش حالة البياض تلك، والتجرد من كل شيء، سوى من الإذعان والخضوع للرحمن. تسامح ومحبة وتصغر النفس بداخل المسلمين كافة في يوم عرفات، ليعيشوا القرب من ضعفاء الأرض والمستضعفين فيها، فذلك البياض الذي ينبش أرواحهم يرقق قلوبهم، فيصلوا إلى إخوانهم المساكين، فيعطفوا ويتقربوا ويمنحوا التسامح والمحبة لهم، ثم يقيموا الأعمال الصالحة تقرباً لله في هذا اليوم الذي يعظم فيه الأجر أضعافاً غيره من الأيام، فيعيش المسلم الحاج وغير الحاج منهم حالة النقاء الكبيرة التي تطهر القلوب، وتجعل منها خيمة بيضاء وملاذ من الضعف البشري الذي يعيشه الإنسان في غير ذلك اليوم، فتبتهل القلوب في رحلة حج ينعكس أثره على سلوكياته وحسن عبادته وعلى طاعته وما يراه في الحياة، فيحدث التغير العظيم في نفوس الحجاج، التي تعيش رهبة الوقوف في "عرفات"، حتى مع تكرار تضرعها تتغير النفوس التي تغير بدورها من الطباع، فيعود الحاج يوم ولدته أمه بأثر بالغ وصلاح يظهر على ملامح وجه وفي صوته، ومن خلال تعاطيه مع أسرته، فيخلق الحج لديه رحلة التطهير التي كان يتوق إليها ويحتاجها كثيراً. قدموا لأجل طلب مغفرة الخالق على مختلف أطيافهم حجاج يدعون الله في المشاعر المقدسة (ارشيف «الرياض») ضيوف الرحمن مُتجهون إلى رمي الجمرات حجاج في مشعر عرفات ومنظر مُهيب