أنذرت السماء بوابل صيب، فهطل مدرارا يحمل في سحب حديه الخير والخطر، فتمترست فرق الدفاع المدني بكل أذرعها الأرضية والجوية، فكان لها قصب السبق في مواجهة الحدث. لم تك الإمكانات أو أنهار المياه عذرا لدرء الخطر عن جدة التي باتت تتنفس تحت الماء. العزيمة وسرعة البديهة في التصرف كانتا سلاح رجال الإنقاذ في جدة، فتفانوا. استغرقهم الواجب تجاه المواطن قبل الذات، تجاوزوا أنهم أرباب أسر وآباء، تجاوزوا الراهن متحملين أخطاء الأمانة التي تغيب أمينها المهندس هاني أبو راس عن الحدث بحجة أن الأمور لابد لها أن تهدأ ليبدأ دورهم في مواجهة الخطر، وكأن الأمانة تنتظر أن تتضافر الطبيعة والكارثة حتى تبدأ أعمالها. وبتمحيص إدارة الضرر التي كان أبطالها فرق الدفاع المدني متوفقين في إدارة تفاصيله بجدارة، انبرى رجاله إلى مواجهة الحدث باقتدار وأنقذوا أرضا 866 محتجزا، 465 جوا، وأمنوا القوارب المطاطية لمن أغرقتهم الخطط العرجاء، والتي لم ينفذ من أضابير تصريحاتها ال 122 إلا القليل، بل والإخفاق في ما نفذته الأمانة في مواجهة سيول المياه الهادرة. وبنظرة في تصريحات قائد الدفاع المدني الفريق سعد التويجري، فإن رجال القطاع وإمكاناته وضعت نصب عينها تأمين الراحة والسلامة، وبدأ العمل البطولي بانتشال الأسر من الغرق، وتأمينها في مساكن تعزلهم من الماء. ثم جندت رجالاتها من مناطق مجاورة لجدة، فكان الغواصون على أهبة الاستعداد والطيارون يجوبون سماء الخطر لنقل البشر إلى بر الأمان. بعيدا عن حمى التصريحات برع رجال الدفاع المدني في إدارة الخطر واستطاعوا أن يكونوا سباقين إلى ترقيع أخطاء الغير وتحمل ما جاء به الأربعاء الماضي حين أمطرت السماء شوراع جدة من البر إلى البحر. واستطاع رجال الدفاع المدني خلال يوم الكارثة من أداء دورهم باقتدار فكانوا سباقين إلى الإنقاذ والتوزع بين أحياء المحافظة وفي طرقاتها مسخرين كل الإمكانات لإنقاذ الأرواح ومساعدة المحتجزين. ويأتي عمل أفراد الدفاع المدني وفق خطط مدروسة أثبتت نجاحها ميدانيا فكانت معداته تجوب الشوارع ورجاله يحذرون ويطلقون التنبيهات عبر وسائل الإعلام بشتى أنواعها. وتجاوز دور فرق الدفاع المدني إلى المشاركة مروريا في تنظيم الحركة المرورية، وإنقاذ المحتجزين في المنازل والمقار الوظيفية والمركبات. ولم تصمد تطمينات أمانة جدة في وجة السحابة السوداء طويلا فالعلاقة بين عامين غيمة أرهقت المحافظة ولم تكتف هذا العام بشرق المحافظة وحسب بل غمرها الماء ولم تعتصم منه فغطى جهاتها الأربع دون تمييز. ربما أن سيول جدة التي شهدتها أمس الأول أرغمت الكثيرين على الإحساس بحجم الوضع فكثير من المسؤولين احتجزتهم المياه في مقار أعمالهم، ولم يستطع أبناؤهم مغادرة مدارسهم جراء المطر فكانت رسالة أشد ألما من تلك التي أرسلت في أواخر العام ماقبل العام الماضي. المؤسف في الأمر أن شارع أمانة جدة المتاخم لموقع الأمانة شهد أبرز مآسي المطر إذ ظل الموظفون العاملون في المكاتب والمؤسسات الواقعة على الشارع محتجزين بمن فيهم موظفو الأمانة. يقول مواطن من سكان الشرق الذين كان لهم من المطر موقف «وجه الشبه بين مطر البارحة الأولى وما قبل عام «الأربعاء» إلا أن الحادثة برمتها كان لها وقعها على الشرق فقط لكنه في هذه المرة لم يترك بيتا إلا وزاره ولم يفرق بين سكان الشرق والغرب». ويضيف صالح الزهراني «حين هطلت الأمطار على جدة في العام 1429ه أجبرت سكان قويزة وغيرها على الخروج إلى بر الأمان حيث يعتصمون من الغرق إلا أن الوضع تغير هذا العام فأين المفر إذا كانت المياه ساوت بين أحياء المدينة كلها وجعلتها كأسنان المشط». وبلمحة لما حدث قبل عامين فإن المشهد تكرر في كثير من تفاصيله فقد تحولت أنفاق جدة المنشأة حديثا إلى مسابح كبيرة في ظل ضعف الرقابة وسوء تنفيذ المشاريع. يقول محمد الأسمري «قبل عامين أغلق نفق طريق الملك عبد الله وغطته المياه بالكامل وقبل هطول مطر العام الجاري كانت فرق الأمانة تجوب المكان وتحضر أكياس الرمل لرد المياه». وزاد الأسمري «في هذا العام لم تقف المياه عند نفق طريق الملك عبد الله بل إنها داهمت وغمرت كل الأنفاق الجديدة التي أنشأتها أمانة جدة فتحولت المحافظة إلى مسابح كبيرة تهدد حياة الأطفال، وتجهز لبيئة جديدة من الأمراض. وأشار الأسمري إلى أن المياه التي شرعت أمانة جدة في نزحها من الشوارع والطرقات العامة ستذهب إلى خارج المدينة لكن السؤال هل نحن على مشارف بحيرة جديدة خارج العمران تهدد جدة من جديد. وخلال جولة لأمين جدة على مخطط أم الخير طمأن السكان أنهم في مأمن وأن الخطر بعيد كل البعد عنهم لكن تطميناته لم تصمد في وجة السيل فانفجر السد وشلت الحركة في شرق جدة وتحولت شوارعها إلى مجارٍ للمياه. يقول سعيد رجب «شاهدت الكثيرين يستخدمون القوارب للتنقل، وزيارة الأمين للحي أخيرا لم تصمد فانفجر جزء من السد وأصبحت المياه على الأبواب». الغريب في الأمر أن «عكاظ» حاولت الاتصال بمدير الشؤون الصحية في محافظة جدة فكان هاتفه النقال مغلقا والرد الآلي يشير إلى تواجده خارج الوطن في ثاني أيام المطر، بينما متحدث الصحة للشؤون الإعلامية مغلق هاتفه وبعض المستشفيات الخاصة أغلقت أبوابها خوفا من الخسائر في مخالفة صريحة للأنظمة.