جاءت الشريعة الإسلامية باعتبارها خاتمة الشرائع، بنظام شامل يكفل حقوق العباد، ويحرم استباحة الدماء ويعصم النفوس من القتل والإرهاب والترويع، ومن هنا شرعت عقوبة الاعتداء على النفس قتلا أو تعزيرا، ومن الله على الأمة المحمدية، فاستبدل القصاص بالدية لمن رغب في حال التنازل، بعد أن كانت الشرائع السماوية السابقة لا تجعل التخيير في جريمة القتل إلا القصاص، وهكذا صانت القوانين الشرعية الأنفس من الاعتداء أخذا بالثأر. وقد يأتي الانتصار بالحق قصاصا عادلا، وبالتسامح عفوا مدخرا نقدا ماديا دنيويا، إلا أن بعض أولياء الدم يبالغون في طلب الدية مقابل إسقاط القصاص تصل أحيانا إلى الملايين، ما يثقل كاهل المطلوبين، ويعد تعجيزياً ويخالف العقل والمنطق، ويصل إلى استنفار القبائل ونصب المخيمات وتعليق لوحات إعلانية تطلب التبرع لهذا الغرض، وهي أمور لا يقرها الدين الإسلامي ولم تكن معروفة في العرف القبلي منذ عقود خلت. ويرى البعض أن الظاهرة تنبئ بكارثة اجتماعية متى ما تفشت في المجتمع، ومن هنا خرجت أصوات كثيرة تطالب بوضع حد لهذه الظاهرة، ونشر ثقافة العفو والتسامح بين الناس، وتعزز هذا التوجه بالأمر السامي الذي وجه بأن لا تتجاوز الدية ال500 ألف ريال كحد أقصى، ويتوقع أن يكون لها بالغ الأثر في تلاشي الظاهرة والتقليل من مفاسدها ومعالجتها. في مدينة جدة، أوضح المواطن يوسف الحمراني، أن ظاهرة المغالاة والتعجيز في دفع في الديات باتت هاجسا كبيرا لدى أهالي المحكومين، الذين يشكلون في معظمهم من الضعاف ماديا وغير قادرين على دفع هذه المبالغ الكبيرة، وشدد على أهمية القضاء على هذه الظاهرة التي تخدش الصورة الإيجابية لسمات العفو والتسامح بين أبناء المجتمع السعودي، ويجسد مبادئ الدين الإسلامي الحنيف الذي يدعو إلى العفو والصفح. فيما انتقد المواطن خالد عبدالرشيد محمد، ظاهرة التعجيز في الديات لقاء التنازل عن القصاص، وكذلك مشاهد نصب المخيمات الخاصة بتجمعات القبائل واللوحات الإعلانية التي لم تكن معروفة لا في العرف القبلي ولا في الإسلام. وقال: حدث وتدخلت في صلح بين قبيلتين، وأدركت أن البعض يتخذ الظاهرة وسيلة للظهور الإعلامي والاجتماعي، ملوحا إلى إن الوجاهة في إعتاق الرقبة أصبحت ظاهرة تستحق الوقوف عندها ودراستها واستخراج النتائج المتعلقة بها. مطالب تعجيزية ويرى المواطن سعيد الزهراني، أن العفو عن القصاص له منزلة عظيمة عند الله وأجر عظيم، ووصف مغالاة ولي المقتول في الدية بالتعجيزية ومتاجرة خاسرة بدماء الناس وعسيرة على ذوي القاتل، وقال: «لولي الأمر الحق في التدخل في الحد من المغالاة في الديات لضرره، خصوصا أن القاعدة الشرعية تنص على أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، فيما أشار مرزوق العتيبي، معلم، إلى تحول المطالب التعجيزية من بعض أولياء الدم مقابل التنازل عن القصاص إلى تجارة مربحة لأطراف أخرى تستغل رغبة الجاني وأهله في السلامة من القصاص، مفيدا أن المبلغ المحدد من قبل الأمر السامي يمثل حل وسط ينهي الخلاف ولا يرهق كاهل الناس ولا يجبر أهل الجاني على سؤال الناس ونصب الخيام لجمع التبرعات. إذلال وإرهاق ويرى نواف العتيبي، في الأمر مبالغة كبيرة تؤدي إلى إذلال وإرهاق ذوي الجاني، كما يرى فيه فعل ينافي الشريعة الغراء التي كفلت كرامة الإنسان وصانت حقوقه، ونأت به عن مقومات الذل والمسكنة، وقال «صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين على الضوابط الجديدة لجمع التبرعات للدية مقابل العفو عن القاتل له الأثر البالغ في تلاشي الظاهرة والتقليل من مفاسدها ومعالجتها. مناف للشريعة من جهته، استهجن إمام وخطيب جامع الكورنيش في جدة عبد الله عبد الواحد، المبالغ الكبيرة التي يتم جمعها مقابل التنازل عن دم، وتصل إلى عشرات الملايين أحيانا، وقال: الشرع حدد دية الرجل ب 100 من الإبل، وهي أمور مقررة شرعا، إلا أن انعدام ثقافة التسامح بين بعض أفراد المجتمع أفرز ظاهرة المغالاة، وأضاف المبالغة في طلب الديات تؤدي إلى إذلال وإرهاق ذوي الجاني وهو أمر مناف للشريعة الإسلامية التي كفلت كرامة الإنسان، وعلى أولياء الدم أن يطلبوا الدية المتعارف عليها، وإن كان العفو لوجه الله وطلب الآخرة هو العمل العظيم عنده أفضل وأسلم. أرقام فلكية في مدينة عرعر، قال المواطن يوسف صالح: إن ظاهرة المبالغة في طلب الدية أطلت بوجهها لأول مرة قبل 10 أعوام تقريبا، وبدأت في البروز مع مرور الوقت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، ووصلت المطالبات على أرقام فلكية، حتى تحولت إلى صفقات تجارية، ومن هنا يجب وقف مدها حتى لا تتفشى في المجتمع، وأضاف: استبشرنا خيرا بصدور الأمر السامي بهذا الشأن. أما الإخصائي الاجتماعي عايد العنزي، فيرى أن المبالغة في طلب الدية حولت الصورة المشروعة التي يراد منها تخفيف مصاب أولياء المجني عليه، وتعويضهم عن فقد عائلهم، وشفاء ما في نفوسهم إلى متاجرة وإذلال ومزايدة ومعاندة، وقال: المطالب التعجيزية أذكت نار الفتنة، وولدت الكراهية، وأضرت بالجاني وأوليائه، وألحقت النقص ليس على مستوى الفرد، وإنما على القبيلة أو الجماعة حتى في قوتهم وأرزاقهم. لجان تقدير الدية من جانبه بين عضو هيئة كبار العلماء عضو مجلس القضاء الأعلى الدكتور علي بن عباس الحكمي، أن الديات قدرت منذ عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ب 100 من الإبل، مشيرا إلى أنها مازالت المعيار لتقديم الدية، مشيرا إلى تشكيل لجان شرعية لمعرفة أثمان الإبل في الوقت الحالي وتقدير الدية لاختلاف أسعارها. ولفت الحكمي إلى أنه تم تحديد الدية مسبقا بمائة ألف ريال، وأستدرك بالقول: «هناك لجان شرعية في المحاكم تقدر أثمان الإبل وتضع الدية المناسبة فالقضية متروكة»، مشددا على أن المغالاة والمطالبة في الديات ومبالغ الصلح غير مستحسنة شرعا، وقال: «من أراد أن يعفو فلا يبالغ بالعوض لأن أجره على الله وهناك أجر عظيم ينتظر العافي لوجه الله في الدنيا والآخرة». لجان الإصلاح في هذا السياق، قال الرئيس التنفيذي للجنة إصلاح ذات البين في منطقة مكة الدكتور ناصر بن مسفر الزهراني، أن لجنته سبق وأوصت بضرورة التدخل في مثل هذه القضايا وبما يتفق مع الأمر السامي، وبين أن اللجنة تأخذ بعين الاعتبار عند السعي للعفو في قضايا القصاص أسس مهمة باعتبارها قضايا مهمة وذات حساسية مفرطة، ينبغي على من يسعى فيها التحلي بالوعي والعقل والحكمة والبصيرة الثاقبة، ومراعاة إخلاص القصد لله تعالى، باعتباره أساس كل فلاح ونجاح. وأضاف: إذا كان أهل الجاني لديهم قدرة واستعداد على دفع عوض معقول فهذا يطرح ضمن العرض، وتكون مسؤوليته وجمعه على أصحاب القضية؛ لأن ذلك يحرج اللجنة ويثقل كاهلها، ويشغلها عن أداء رسالتها، وتابع: هنالك قضايا لا يليق باللجنة أن تسعى فيها، مثل القضايا الأخلاقية، أو قطع الطريق وغيرها. وخلص إلى القول: «التعويض في قضايا القصاص كان وما زال يحظى باهتمام أعلى سلطة في المملكة ممثلة بخادم الحرمين الشريفين، الذي أصدر أمرا ساميا بألا يزيد مبلغ التعويض على نصف مليون ريال، وأي شيء يتعدى ذلك فهو مخالف للأمر. 20 قضية في الشرقية في المنطقة الشرقية، أوضح عضو لجنة إصلاح ذات البين في المنطقة عبد الرحمن الرويسان، حل الجنة لأكثر من 20 قضية قتل بعد حصولها على تنازل وعفو عن القتلة، بدية أو بغير دية، وقال لدينا عدد من ملفات قضايا القتل التي نسعى للحصول على تنازل وعفو بشأنها من قبل أوليا الدم وقال لأمير المنطقة الشرقية كان دور ملموس في ذلك. في المقابل قال رئيس مجلس بلدي مدينة نجران وعضو الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان وعضو لجنة العفو والإصلاح في المنطقة زيد بن علي شويل: أن التعامل مع قضايا القتل إحدى مشكلات المجتمع ومن أهم مقاييس وعيه ودرجة تحضره وسلوك أفراده. وأضاف شويل عندما يكون القاتل في حال الدفاع عن نفسه أو عرضه أو ماله أو كان القتل خطأ، فالأولى هنا العفو والأمر في أيدي ولاة الدم، ففي العفو أجر وصلاح، وأن معاونة القاتل والسعي الحميد لدى ولاة الدم من مكارم الأخلاق.. وكثيرا ما نشاهد حالات عفو يبقى إثرها الطيب في النفوس. أما ثاني بن بطي العنزي عضو لجنة إصلاح ذات البين في منطقة الحدود الشمالية سابقا ورئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية في عرعر، فيرى في وجود اللجان أمرا جيدا، ولكنها يجب أن تكون قوية وفعالة وليست مجرد أسماء فقط وقال: «لجان الصلح فعلت دورها وساهم بعضها في تنازل الكثير من أصحاب الديات». رأي القضاء من جهته، طالب قاضي الاستئناف المكلف في مكةالمكرمة، الدكتور محمد بن حجر الظافري، بتجنب المصلحون بين الناس الأموال الكبيرة في الدية، والتذكير بفوائد العفو؛ لأن الدين الإسلامي حث على العفو والصفح والتسامح واحتساب ذلك عند الله سبحانه وتعالى. وقال: المطالبة بالدية والمبالغة فيها ورفع بعض أولياء الدم للدية على أهل القاتل من أجل التنازل، هو في الأساس ناتج عن ضعف الوازع الديني وقلة الوعي بأهمية العفو والتسامح من أجل الآخرة، حتى أصبح الشخص يتمنى أن يقتل له قريب أو أخ أو ابن حتى يغالي في الدية والتمسك بها، ونحن لا ننكر له حقه في ذلك وصحيح أنه فجع، ومع هذا عليه التحلي بالصفات الحميدة باعتبار الأمر قضاء وقدر. من جهته، قال الشيخ أحمد الفوزان عضو المحكمة العامة في الخبر، إذا كانت الدية عوض عن القصاص، فالأصل أن ولي الدم يتمسك بالمطالبة بالقصاص، وإذا طلب الورثة بأكثر من الدية ووافق المحكوم عليه، يجوز له من الناحية الشرعية حتى لو طلب ضعف المبلغ المحدد أو زاد قليلا، أما إذا كان صاحب الدم يريد الأجر، فكلما أسقط شيئا من حقه فهو أفضل له عند الله سبحانه وتعالى، وعليه أن لا يبالغ في الطلب ويترك المغالاة في طلب العوض. رأي المشايخ في نجران، أكد الشيخ صمعان بن جابر بن حسين بن نصيب شيخ شمل قبائل مواجد يام، تماسك وتعاون المجتمع الإسلامي المثالي في التراحم والتكاتف والمودة، وقال: في الآونة الأخيرة تفشت ظاهرة غريبة على المجتمع تمثلت في المغالاة والمبالغة الشديدة والمجحفة في الديات التي تدفع لأولياء الدم في حالة إسقاط القصاص، وأضاف: من الأجدر على أولياء الدم الإعفاء والصفح لوجه الله تعالى ابتغاء الأجر والثواب ثم لوجه ولاة الأمر والمشايخ وأعيان ووجهاء المجتمع، وزاد: نحن مع الدية الشرعية التي أمر الله ورسوله بها ومع ما تحدده الدولة من مبالغ مالية في هذا الجانب. من جهته، اعتبر الشيخ علي بن أحمد الحارثي من مشايخ آل حارث في نجران، المغالاة في طلب الديات بالمخالف لعرف القبائل، التي لا تساوم في أبنائها مهما كان الثمن وتقوم بالصفح والعفو أو الاقتصاص من القاتل، وأشار الحارثي إلى أن القيادة وجهت أمرها السامي بعدم المغالاة وحددت مبلغا معينا للدية، إلا أن هناك من لا يلتزم بهذا القرار، مؤكدا على دور شيوخ القبائل ووجهاء المناطق بمتابعة الموضوع والاهتمام به وعدم ترك الحبل على الغارب. رأي القانون ويرى المحامي والمستشار القانوني زهير مفتي، في الظاهرة متاجرة وتكسب لدى البعض الذين يستغلون رغبة الجاني وأهله في الخلاص من القصاص، موضحا أن المبلغ المحدد في التوجيه السامي الذي أمر بأن لا تتجاوز الدية ال 500 ألف ريال، يمثل حلا وسطيا ينهي الخلاف ولا يجبر أهل الجاني على تكفف الناس ونصب الخيام لجمع التبرعات. ويرى مفتي، أن مطالبة أهل الدم من أموال مبالغ فيها يعتبر «تعويضا» لا «دية» لأن الدية محددة شرعا في القتل العمد وقتل الخطأ، أما التعويض فيكون بعد صدور حكم مؤيد من المحكمة بالقصاص، حيث يطلب أهله تنازلا عن القضاء في الحق الخاص ليفتدوا رقبة ابنهم المدان بالقتل. رأي الشورى أوضح الشيخ عازب آل مسبل رئيس لجنة الشؤون الإسلامية والقضائية في مجلس الشورى، عدم طرح قضية المغالاة في الديات للنقاش في مجلس الشورى باعتبارها قضايا شرعية لا تخضع لاجتهادات، ولكنها تنبئ بكارثة اجتماعية متى ما تفشت داخل المجتمع. وقال: «نحن مجتمع مسلم مسالم متسامح لا نتاجر بالدم مقابل مبالغ مالية طائلة تطلب من أهل القاتل» وزاد: «عدم وجود ضوابط شرعية ساعد في تمادي البعض على المغالاة في طلب الدية»، وطالب أئمة المساجد والمثقفين والإعلام بإلغاء الضوء على المشكلة وتوعية الناس بأهمية التسامح والمسامحة وطلب المعقول خاصة في عتق الرقاب باعتبارها مسألة إنسانية فمن عفا وأصلح فأجره عند الله عز وجل كبير.