المبالغة في الديات وعوض العفو عن القصاص يأتي سبباً في قلة الوعي بأهمية العفو ودعوة لإبقاء العداوة وقطع المعروف بين الناس، والمبالغات فيها قد تكون ظاهرة اجتماعية في مجتمعنا، ولكن هذا لم يمنع الكثيرين من أولياء الدم من أن يعفوا لوجه الله، وبعضهم يكتفي بالدية الشرعية المحددة. كثير من المشرعين وعلماء الدين تصدوا لهذه الظاهرة وحذروا من المبالغة فيها. وتوجيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود بأن ما تجاوز حد الخمسمائة ألف ريال مقابل العفو عن القصاص مبالغ فيه، يعتبر توجيهاً حكيماً وصائباً ويتفق مع ما أصلته الشريعة الإسلامية. ومن خلال لقائنا بعدد من المختصين الذين أيدوا قرار خادم الحرمين الشريفين، وأكدوا على أهمية فهم المقصود من الديات وأن الأجر العظيم بالعفو والصفح: العفو عند المقدرة أ. د. حمد الخالدي أستاذ بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالعزيز أكد أن تدخل خادم الحرمين للحد من الظاهرة يجسد حرصه - حفظه الله - على تماسك الأسرة السعودية، وأن المبالغة في طلب الديات أعاقت جهود القائمين على الصلح وأصبحت تشكل عبئاً وعائقاً أمام جهود المصلحين التي يقوم بها أهل الخير ولجان إصلاح ذات البين. صور إنسانية تختفي وأضاف: مما يؤسفني أن أرى أن المبالغ التي يتم جمعها مقابل تنازل عن دم قد تصل إلى عشرات الملايين أحياناً وهذا فيه إجحاف كبير في حق من وقع عليه الدم وذويه، مع أن من المعلوم بأن أي مبالغ لا يمكن أن تعادل حياة الإنسان الذي كرمه الله، ولكن لا يجب المبالغة في طلب الديات، كما أن التعويض لا بد أن يكون في حدود المعقول وبالتراضي بين الطرفين لتحقيق الهدف منه، ولا ننسى قوله تعالى: (وأن تعفوا أقرب للتقوى) البقرة: 237 لأن الأصل تفضيل العفو وتقديمه على القصاص. وأضاف: نريد أن نرى الصور الإنسانية الجميلة التي تكاد تختفي والمتمثلة في الكرم والعفو عند المقدرة، والتي كنا نشاهدها تنقذ القتيل من حد السيف في اللحظات الأخيرة عندما يقف ولي القتيل ويعلن على رؤوس الملأ (عفوت عنه لوجه الله) قبل التنفيذ بدقائق، وهذا والله ينم عن كرم وشهامة مستمدة من اتباع تعاليم ديننا الحنيف. تعجيز أولياء الدم والدكتورة مضاوي بن سعيد أشادت بقرار خادم الحرمين الشريفين قائلة بأنه قرار حكيم وسوف يوقف بإذن الله المغالاة في الديات التي أصبحت جزءاً من الأعراف والعادات التي ألفها الناس، وقد تدخل في نطاق تعجيز أولياء من وقع عليه الدم عن الدفع ليس إلا، مما يضطرهم لاستخدام كل الوسائل الإعلامية وغيرها وإقامة مخيمات لجمع التبرعات من أجل دفعها لورثة القتيل، وهناك من حوَّل هذه الظاهرة إلى مزادات علنية لم تعد تقبلها النفوس ولا ترضاها العقول السليمة خصوصاً في هذا المجتمع المسلم في هذا البلد الطاهر. وما كان ينشر في وسائل الإعلام من عناوين بملايين الريالات، وعبارة (نناشد أهل الخير المساعدة في إنقاذ رقبة فلان بن فلان من حد القصاص) شيء مفزع وليس من شيمنا الإسلامية التي تعلمناها من كتاب الله وسنة نبيه. المغالاة بالديات أما مديرة عام التوعية الإسلامية بوزارة التربية والتعليم الدكتورة حصة الوايلي فقد أوضحت في هذا الصدد أن قرار خادم الحرمين الشريفين ينم عن عقلانية كبيرة ووعي، ويعد قطعاً لدابر الجشع واحتراماً للأحكام الشرعية ومراعاة لذوي الميت الذين قد يقعون في أيدي بعض أهل الطمع والجشع ممن يستغلون ظروفهم والمبالغة بطلب الدية، ويغالون كثيراً ويبالغون في طلب مبالغ كبيرة جداً مقابل التنازل عن القصاص. وأضافت: يجب أن نمتثل لهذا القرار الصائب، وأن نشيع التسامح فيما بيننا من أجل الآخرة وليس من أجل أمور دنيوية، ومن المفترض أن أولياء الدم إما أن يطلبو الدية المتعارف عليها شرعاً أو يعفوا لوجه الله ويطلبوا الأجر منه، حيث إن الأجر العظيم بالعفو والصفح، ومن عفا وأصلح فأجره على الله، وما عند الله خير وأبقى، لماذا لا ننشر ثقافة العفو والتسامح بين الناس. ضعف الوازع الديني وأضافت: لا تكاد تخلو صحيفة يومية من خبر عن طلب المشاركة في إعتاق رقبة وجمع الملايين لدرجة أنها أصبحت ظاهرة تثقل كاهل أولياء الدم، كما أننا نشاهد ونقرأ عن الديات المبالغ فيها لأنه بالرغم من تدخل عدد كبير من أهل الخير للإصلاح إلا أنهم يواجهون صعوبات في الصلح والعفو مما يضاعف عدم إمكانية أهل القاتل من دفع مبلغ الدية، خاصة إذا كانت المبالغ المطلوبة بالملايين، وأنا أرى أن ضعف الوازع الديني هو السبب في عدم فهم الناس لتعاليم ديننا الذي ينبذ مثل هذه الظاهرة ولا بد لنا أن نوقف تنامي هذه الظاهرة ونحد من التجاوزات. وتقول: أنصح الجميع بالعفو عند المقدرة لأن الإسلام كما شرع القصاص صيانة للنفس أحل الدية وعتق الرقبة من الموت، وجعل جزاء من يعفو أكرم حيث يقول جل وعلا (وإن تعفوا هو أقرب للتقوى) ويقول سبحانه: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) كما أن هذا لا يمنع من إقامة القصاص لأن فيه حياة كما قال في محكم التنزيل: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) (179) سورة البقرة. إجماع الفقهاء وقد أجمع عدد من المشايخ والفقهاء على أن المغالاة في طلب الدية من قبل أولياء القتيل يدخل أولياء القاتل في عنت عظيم ومشقة كبيرة، وهذا خلاف مقصد الشريعة الإسلامية، مؤكدين أن شريعة الإسلام شرعت الدية لجملة من المقاصد أبرزها رفع النزاع في تقدير القيمة حتى لا يتنازع الناس في تقديرها، إذ مهما اختلفت منازل الناس وأجناسهم، فهم جميعاً أمام تقدير الدماء سواء، فلا تفاوت بينهم، لذلك لم يترك الشارع أمر تقديرها للحاكم، بل تولى تقديرها بشرعه جلَّ وعلا. وأكدوا في تصريحات مسبقة أن المبالغة في عوض العفو عن القصاص والقود هو في حقيقته إمعان وتكريس في إبقاء العدواة وقطع المعروف بين الناس إذ لا قيمة لعفو ينجو به الجاني من القصاص ويهلك بسبب أسرته وقبيلته في جمع المال وإراقة ماء الوجه على أبواب المحسنين لأجل توفير ما اشترطه أهل القتيل من عوض مبالغ فيه. ونوهوا بموافقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله - على ما انتهت إليه اللجنة المشكلة لدراسة ظاهرة المبالغة في الصلح في قضايا القتل ورأوا في تلك الضوابط التي توصلت إليها اللجنة قطعاً لدابر الجشع واحتراماً للأحكام الشرعية ومراعاة لذوي الميت الذين قد يقعون في أيدي بعض أهل الطمع والجشع ممن يستغلون ظروف أهل الميت فيأتون بأغلى الأسعار ويعطونهم أقلها. لجان إصلاح والدكتور إبراهيم بن ناصر الحمود من جامعة الإمام يرى أنه في حال الحالات الجنائية يسعى أهل الجاني إلى تدخل أهل الحل والعقد في الإصلاح بينهم وبين أهل المجني عليه. وقد نجحت تلك اللجان في إسقاط حكم القصاص إما إلى الدية أو العفو التام، وهذا له أثره الكبير على تصفية النفوس والعفو والتسامح. مؤكداً: أن مهنة الإصلاح مهنة تحتاج إلى صفات معينة فليست لكل أحد وإنما لا بد أن يكون عضو اللجنة متسماً بصفات الرجل الناجح المعتدل ذا حلم وأناة وقدرة على الإقناع قد اهتم بصلاح نفسه قبل صلاح غيره فإن فاقد الشيء لا يعطيه. ولا بد أن يكون على علم بما يقول ليتمكن من الإقناع بالحجة والدليل. ولا بد أن يكون على قدر كبير من سعة البال وتحمل ما قد يوجه إليه من النقد أو سوء الأدب من الطرف الآخر، وإن الإصلاح بين الناس جانب دعوي، فيشترط فيه ما يشترط في الداعية بأن يكون الإصلاح بأسلوب الوعظ الحسن والحكمة والمجادلة بالرفق واللين. ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. أثر الإصلاح كما يرى أن الإصلاح بين الناس له أثر على المصلح نفسه. فإنه يتعلم من أخطاء غيره، ويتعرف على المعوقات التي تعوق سير الإصلاح، لأن العملية الإصلاحية مدرسة والمصلح رائدها والموجه إليهم الإصلاح طلابها وهكذا تكون المنفعة مشتركة. وكلما ازداد المصلح خبرة في هذا الجانب تنوعت المنافع. ومن أهم تلك المنافع العلاقة الحميمة بين المصلح والمستفيد من الإصلاح لكونه يشعر بأنه صاحب فضل عليه. حيث كان سبباً في إزالة ما بين الخصمين من خلاف وشقاق. وفض النزاع بأسلوب أخوي يحفظ المودة ويجدد المحبة.