منذ قرأت ما كتبته الأستاذة منى المالكي قبل أسابيع عن ندم ابن زريق البغدادي الذي ركب رأسه وأصر على الارتحال بعيدا عن زوجته التي كان يربطه بها حب كبير غير مبال بتوسلاتها ودمعها المنسكب أن لا يذهب، فذهب غير نابض قلبه بإشفاق على مشاعرها المحطمة بالحرقة على فراقه بعد أن غطى بصره طموحه أو طمعه في تحصيل المال وغلب على ظنه أنه سيعود إليها محملا بما يبهجها ويرضيها. ثم ما لبثت الأيام أن خيبت ظن ابن زريق فلم يتحقق له ما طمع فيه وأصابه مرض الموت بعيدا عن الحبيبة فهاجت شجونه وقطعه الندم أنه لم يصغ لتوسلاتها ولم يرق لدمعها، فسجل مشاعره تلك في قصيدة جميلة من أرق وأعذب ما قاله الشعراء. لكني لست هنا بصدد الحديث عن الشعر وعذوبته فما يشغلني أمر آخر. فمنذ قرأت مقال منى الذي كانت تشير فيه إلى الندم المتجسد في أبيات قصيدة ابن زريق، وأنا أفكر في مفهوم الندم وطبيعته! أحاول أن أخلص إلى حقيقة ما يصيب الإنسان من مشاعر مؤلمة حارقة بعد أن يفرط من يده أمر ما عاد بإمكانه تفادي وقوعه! ماذا يعني الندم؟ هل هو مجرد حالة من الأسف العميق؟ أم تأنيب وعقوبة للذات؟ أم هو سعي من الإنسان إلى أن يعلم نفسه ويضيف إلى خبراته وتجاربه ما يعينه على أن لا يكرر أخطاءه؟ هل حقا يمكن للندم أن يقلل من احتمالات وقوع الإنسان فيما يندم عليه مستقبلا؟ لم نندم؟ هل نحن نندم لأن الحقائق غالبا تختفي عنا فلا ندركها إلا بعد فوات الأوان، أم أننا نندم لأن الحقائق كانت واضحة ولكن بصيرتنا خذلتنا فكانت عمياء فلم تر سوى ما أحبت وما أغراها، فغابت عنا بسببها رؤية الحقيقة فلم نتبينها إلا بعد فوات الأوان؟ أحيانا، تمر بنا فرص غالية فنغفل عنها غير مدركين قيمتها ولا مقدرين غلاها أثناء مرورها بنا قريبة في متناول أيدينا، ثم متى ابتعدت وتجاوزت نطاقنا أبصرنا حقيقتها وأدركنا قيمتها، فيأكل الندم قلوبنا آنذاك على ما أفلتناه منها. وأحيانا يكون العكس، فننخدع ببعض الأمور نظنها فرصا عزيزة لا تعوض، فنندفع إليها ننهل منها، ثم نكتشف أننا مخدوعون وأن ما ظنناه فرصة لا تعوض ليس سوى وهم من أوهامنا، وما كان له أن ينال منا إقبالا أو احتفاء، فتتفتت قلوبنا حسرة على غبائنا وسهولة انخداعنا. أهم من هذا كله، هل يمكن لنا تفادي الندم؟ ولا أقصد بذلك أن لا نندم عندما يقع لنا ما يثير فينا شعور الندم، ما أقصده بتفادي الندم، هو هل يمكن للإنسان أن لا يفعل شيئا يندم عليه؟ هل يمكن له ذلك؟ كم هم الذين ندموا على اختيار تخصص دراسي اكتشفوا فيما بعد أنه لا يصلح لهم؟ أو وقعوا في شباك عمل لا يلائم طبائعهم؟ أو تورطوا في زواج يستبطن شقاءهم؟ أو أقدموا على تجارة كان فيها أفلاسهم؟ كم هم الآن الذين يودون عودة الساعة إلى الوراء ليتفادوا الوقوع في ما وقعوا فيه؟ ولكن، لو عادت الساعة بهم، أتراهم قادرين على تجاوز الوقوع فيما وقعوا فيه؟ أم أنهم سينقادون مستسلمين للسير في الطريق نفسه، لا يملكون من أمرهم سوى الترديد مع من قال: (مشيناها خطى كتبت علينا، ومن كتبت عليه خطى مشاها)؟. فاكس 4555382-01 للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة