الواقع والتجربة يوضحان بأن التطرف والإرهاب يبدآن فكرا. التطرف والإرهاب يستندان إلى أرضية فكرية وأيدلوجية تتسم بالانغلاق والتزمت والتشدد، وإلى تعبئة اجتماعية ونفسية من خلال قنوات ومؤثرات مهمة وخطيرة، مثل طبيعة ونوعية مناهج التربية والتعليم، ومحتوى وأسلوب الخطاب الديني والنشاطات الدعوية والخيرية المرافقة. لقد قيل بحق إن الإرهاب هو ثمرة فاسدة في شجرة لها جذور عميقة وفروع طويلة، لذا لابد من تجفيف جذور تلك الشجرة إذا أريد للإرهاب أن ينتهي أو يضعف، وهو ما يتعين في المقام الأول الاعتراف الواضح والصريح بوجود هذه الظاهرة (الإرهاب) وبأنها منتج محلي بامتياز ، وهذا لا يلغي دور العوامل (الإقليمية والدولية) الخارجية المغذية المساعدة، مما يتطلب تحديد أرضيته ومكوناته وعناصره واتجاهاته واستهدافاته، وسبل مواجهته في العمق والجذر، وليس الاقتصار على تجلياته المباشرة والظاهرة، أو الاكتفاء بالحلول الأمنية فقط. الأمر الذي يتطلب ثانيا إعادة النظر في مواطن الخلل والضعف والتقصير الذي يكتنف الواقع بأبعاده المختلفة. مواجهة العنف والتطرف والإرهاب تتطلب وضع استراتيجية وطنية شاملة بكافة أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية. مكونات وعناصر هذه الاستراتيجية تتمثل في: أولا: احترام التعددية والتنوع الاجتماعي والمذهبي والفكري والثقافي في بلادنا ضمن الثوابت المتفق عليها، وبالاتجاه الذي يرسخ الوحدة الوطنية والمجتمعية المشتركة التي أرسى دعائمها القائد المؤسس الملك عبد العزيز (رحمه الله). ثانيا: التصدي للمشكلات الجدية العالقة مثل الفقر والبطالة والفساد وتردي الخدمات. ثالثا: مواصلة تطوير وتحديث مناهج التعليم والعملية التربوية وتجاوز ظاهرة الحشو والتلقين وتسطيح وتنميط العقول، والدعوة إلى الخير والعدل والسلام بين كافة الأديان متذكرين قوله تعالى «ولقد كرمنا بني آدم» وهو قول لا يخص دينا أو جنسا أو عرقا أو جماعة بعينها. ثم سيرة ومواقف النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي بعث رحمة للعالمين، ومن بينها صياغته لميثاق المدينة الذي شمل المسلمين واليهود والمشركين على حد سواء، وقوله المأثور «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وإشادته بحلف الفضول الذي عقد في الجاهلية، ناهيك عن سيرة الخلفاء الراشدين ، نصرة الخليفة عمر بن الخطاب للقبطي إزاء تصرف من قبل ابن الوالي وقولته المشهورة «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، مؤكدا على عدم تجاوز حق وحرية أي إنسان بمعزل عن دينه وانتمائه، وهو ما أكده في العهدة العمرية التي حفظت للمسيحيين حقوقهم بعد فتح بيت المقدس. وقول الإمام علي بن أبي طالب في وصيته لمالك بن الأشتر «الناس نوعان أخ لك في الدين أوشبيه لك في الخلق». ما نحتاجه على هذا الصعيد تعليم حديث وعصري يتجاوز التلقين والحفظ والنظرة الأحادية، و يعمل على تحفيز ملكة العقل النقدي والتساؤل والتفكير المستقل. رابعا: استمرار العمل على رفع سقف الحريات العامة كالصحافة والكتابة والنشر، وتشجيع روح الحوار والنقد والمناقشة الموضوعية الهادفة والبناءة، والعمل على ترسيخ قيم التسامح والتعددية المذهبية والفكرية واحترام الآخر المختلف. المطلوب تحفيز وإثراء ثقافة ووحدة وطنية ومجتمعية مشتركة وفقا للثوابت الوطنية والدينية، ومن خلال صيانة واحترام مشروعية التنوع والتعددية الذي هو خاصية بشرية في مجتمعنا كبقية مجتمعات العالم. في الواقع ليس هناك من اختلاف جوهري يذكر لا من حيث الشكل أو المضمون بين جماعات التطرف والتشدد والتزمت على اختلاف توجهاتهم السياسية والأيدلوجية والمذهبية، التي تمارس جميعها العنف والإقصاء الرمزي من تكفير وتبديع وتحريض إزاء الآخر المختلف، وبين المجموعات الإرهابية التي تمارس عنفها عن طريق التدمير والقتل. الاختلاف هنا في التكتيك والأسلوب والإمكانيات، وتقسيم العمل وتحديد الأدوار، فالجميع على اختلافهم وتناقضاتهم في ما بينهم يستهدفون فرض مشروعهم وأجندتهم (الظلامية) الخاصة عن طريق إلغاء أو تطويع الدولة والمجتمع والفرد، وهم جميعهم يشتركون في استحضار بعض الجوانب المعتمة في التراث والتاريخ المشرق والمضيء للحضارة العربية / الإسلامية التي سادت العالم عبر انفتاحها وتفاعلها مع الحضارات والثقافات المجايلة والسابقة، إلى جانب اجتزائهم لبعض النصوص الدينية عبر إعادة تأويلها وفصمها خارج سياقاتها، بغية توظيفها بصورة نفعية وديماغوجية لخدمة مصالحهم وأجندتهم السياسية والاجتماعية والأيدلوجية الدنيوية (المدنس) الفئوية، التي تستهدف الحاضر وممكنات المستقبل. وقود هذا الصراع العبثي والدموي الأرعن والمدمر هم شباب في مقتبل العمر يطحنهم الإحباط واليأس والتعصب، ويفتقدون الوعي والمعرفة الصحيحة، وهم قبل كل شيء يفتقرون إلى التجربة والخبرة والقدرة على التفكير المستقل والواقعي، لهذا يسلمون عقولهم وحياتهم ومصيرهم لفتاوى وتوجيهات حفنة من فقهاء الكراهية والتكفير والموت والتدمير، والذين لهم حظ قليل (أو كثير) من المعرفة والعلم الشرعي، غير أنهم يمتلكون قدرة هائلة في سلب العقول، وغسل الأدمغة والتهييج والتحريض، التي يذهب ضحيتها هؤلاء الشباب الغض، الذين أصبحوا أدوات للتعصب الأعمى وللموت والتدمير بحق الآخرين، الدولة والمجتمع والفرد، وبحق أنفسهم. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 147 مسافة ثم الرسالة