الإتقان عمل نادر اليوم، وإذا بقي اليوم في مكان أو وظيفة أو عمل فهو مرشح للاختفاء ! أبدأ اليوم بتشاؤم معروف، غير أنني سأكمل بتفاؤل قد يصيب مخ قارئ أو قارئة فيذكرني بالخير. هناك بشر كثيرون يتصورون أن الإتقان هو شيء يخص كل الأعمال إلا الفن والأدب، فهما في رأي كثيرين يعتمدان على الموهبة والمثابرة فقط. لكن اجتماع الموهبة والإبداع والإتقان تجعل العمل عظيما. وعندي اليوم مثال على ذلك وهو الكاتب الإيطالي الشهير «امبرتو ايكو» مؤلف رواية «اسم الوردة» الشهيرة التي بيع منها الملايين من النسخ في العالم. و «ايكو» قام بإنجاز رواية جديدة لم يعتمد فيها على إبداعه وخياله فقط، بل قام بدراسات وأبحاث وجولات ورحلات وغيرها. قام الروائي بزيارة جزيرة تقع معظم أحداث رواياته فيها، واستند على وثائق وملفات مغمورة. وظل يقرأ في المساء كل شيء عن الجزيرة وعاش فيها شهورا، وفي النهار كان يقضيه غاطسا في مياه المحيط يدرس قيعانه، واضعا على عينيه قناع الغطاسين ومستندا إلى زورق صغير، وبعد خروجه من المياه يقوم الكاتب «ايكو» بمراقبة الأفق البعيد مسجلا انفعالاته في جهاز تسجيل صغير، يراقب السماء والنجوم، والغروب وحركة البحر والطيور والأزهار وغير ذلك. ويقوم بنقل كل ما يشاهده حرفيا ليتمكن من الإحساس بالفضاء ولعبة الوقت بما يطابق ذلك إحساس بطله ابن القرن السابع عشر الذي يرى الأشياء لأول مرة، ويحاول وصفها بالكلمات التي يعرفها. ويذهب الروائي الإيطالي إلى أبعد من ذلك. فيعيش مع بطله حيث يمضى وقتا طويلا في الماء، محاولا التعرف على مشاعر الإنسان الذي لا يعرف السباحة. ويستند «ايكو» على مصادر أخرى مثل قاعات المتاحف البشرية في إيطاليا والكتب المطبوعة والمخطوطة في القرن السابع عشر.. وفي النهاية فإن هذا الكاتب الجميل لا يكتب إبداعا ولكنه يتقن الإبداع.!. [email protected]