يتحدث امبرتو ايكو في «آليات الكتابة السردية» (دار الحوار- ترجمة سعيد بنكراد- 2010) عن رواياته الأربع وبخاصة «اسم الوردة» وقد ضمن كتابه هذا ملاحظات تتعلق بسيرورة التأليف وبناء الكون الروائي وتأثيثه والميتافيزيقيا البوليسية فالرواية البوليسية مثيرة لأنها تخمين لحالة خاصة تتضمن انتصار النظام، أما الميتافيزيقيا البوليسية فهي التي تجمع بين حرفية الواقع ومتاهة الغيب... وعن الرواية التاريخية والنفس والتعريض والحداثة وما بعدها... فالرواية «آلة مولدة للتأويلات» و «واقعة كوسمولوجية» ويذهب ايكو إلى أن «الرواية تفكير بالأصابع» وينفي أن تكون الرواية تصفية حساب شخصي وتنفيساً عن حقد صغير أو انفعال مصطنع. العنوان مفتاح تأويلي وينصح المؤلف بأن يكون لئيماً في اختبار العنوان بنزاهة، وأن يختار المؤلف العنوان الدال وقد اختار بداية عنوان «دير الجريمة» إلا انه أهمله فهو بوليسي وحسب، ثم اختار عنوان «ادزو دي ميلك»، إلا انه صوت المحكي، وليس مثل «روبنسون كروزو» أو «دافيد كوبرفيلد». كما أن الناشرين البريطانيين لا يميلون إلى الروايات المنسوبة لأسماء أبطالها وأعلامها، ثم قادته الصدفة إلى «اسم الوردة» فالوردة موحية بالدلالات وكثيفة الإيحاءات. يعترف ايكو أن لا شيء أبهج من اكتشاف تأويلات قراء مضمرة في السطور، لم يكن المؤلف منتبهاً لها، ولعل هذا الاعتراف شبيه بمقلوب قول شارلي شابلن في مذكراته: أكثر ما يبهج المخرج قول المشاهد هذا ما حدث لي بالضبط! ليس من حق المؤلف سوى الحكي، التأويل حق القارئ، المؤلف يكذب عندما يقول انه اشتغل تحت تأثير الهام يشبه الصاعقة، فالإلهام لا يشكل سوى 20 في المئة من العمل، فقصيدة لامارتين التي زعم انه كتبها بالهام خالص هي أكثر القصائد صنعة في الأدب الفرنسي! بدأت رواية «اسم الوردة» من خلال رغبة الكاتب في تسميم راهب (الناقد سعيد الغانمي يذهب في خزانة الحكايات إلى أن الرواية مقتبسة من حكاية من ألف ليلة وليلة عنوانها «الملك يونان والملك» رومان والكاتب نفسه يقول في مكان آخر بأن كل كتاب هو حديث عن كتاب آخر وكل قصة تروي قصة سابقة!) تلك بذرة الرواية التي كساها باللحم. ثم استغرقت الرواية أبحاثاً وخرائط وعودة إلى القرن الرابع عشر وقياس ممرات مكان الرواية الذي اختار ديره على أعلى جبل بالمتر والخطوة بل وتحديد عدد درجات السلم اللولبي، الرواية ليست كلمات، الرواية كوسمولوجيا وعمارة أكوان، الشرط الأساسي في الرواية هو أن تكون كثيفة في أبسط الجزئيات فأن يختار الراوي صياداً على ضفة نهر هذا يعني شبكة هائلة من الاحتمالات. السردية تحتاج إلى شهادة ميلاد، ووزارة للتعمير... يزعم ايكو أن للرواية وزناً مثل القصيدة، أما قيود الرواية وبحورها فهي متولدة عن المضمون، فبحر الحكايات الخرافية غير تفعيلات الروايات الواقعية، كما أن السرد أسير مقدماته، أي أن شخصياته التي ألفها ستستقل وتنال حق تقرير المصير بالقوة. والرواية العظيمة هي التي يعرف مؤلفها متى يسرع وأين المنعطفات الخطرة التي يخشى منها الانزلاق. وفي صيد القارئ يقول ايكو انه لا يوجد كاتب يكتب من أجل قارئ في المستقبل. جيمس جويس نفسه كان يكتب لقارئ عادي، لعل ايكو يقصد التشويق فيكف يمكن إغواء القارئ في المئة الأولى من الصفحات؟ رواية الحبكة رواية تجارية مثلها مثل الرواية البوليسية، أما غاية ايكو فكانت رواية تجمع بين الحبكة والإشكالية فالرواية البوليسية تنتهي بكشف الجريمة، وتموت أما رواية التأويل فرواية مستمرة تحتفظ بلغزها أو جزء منه معها كأن يكتشف محقق بوليسي ذات يوم في إحدى الروايات أن المجرم هو نحن! الأمر مع رواية «بندول فوكو» كانت أكثر تعقيداً، بعد إحساس ايكو انه كتب ما يريد في الأولى، يقول أنه رأى بندول ثم طلب منه مخرج كتابة سيناريو فيلم فاشترط أن لا يظهر اسمه عليه وخان المخرج النص ومع ذلك ظهر بندول راقص في كهف يتعلق به شخص يلعب بالسيف، البذرة الثانية كانت رغبته بالنفخ في بوق في مراسيم جنازة وقد جمع ايكو بين الصورتين في رواية استغرقت ثمانية أعوام! الشيء ذاته حدث مع رواية «جزيرة اليوم السابق» وكانت رغبة شعرية للمؤلف في أن يتحدث عن الطبيعة فاختلق جزيرة لغريق نجا في جزيرة نائية وبعد تفحص الأطلس وقراءة حول العالم في ثمانين يوماً وجد نفسه في مواجهة الثقافة الباروكية في القرن السابع عشر، هنا شقت الرواية طريقها بناج وحيد على باخرة أما رواية «باودولينو» فهي استثناء. فهي على النقيض من هذه المعادلة القائلة بالانطلاق من فكرة، من بذرة ثم بناء الأسلوب عليها، فقد كانت لدى ايكو بذور مشتتة ولعل البذرة الأساس هي فكرة جريمة قتل في غرفة مغلقة، أما الثانية فهي أنّ المشهد الأخير يجب أن يتم وسط جثث محنطة وهاتان الفكرتان أقل من أن تبنى عليهما رواية. إنها أضغاث أفكار وليس لها سوى وظيفة سينوغرافية. أما الفكرة الثالثة فهي أن الرواية ستنشغل بالمزيف، فاهتم ايكو بتزوير رسالة يوحنا وهكذا عاد إلى القرون الوسطى، حبه الأثير. «باودولينو» هي مقلوب «اسم الوردة»، لعل فكرتها انطلقت من القديس الحامي لمدينة، ففي «اسم الوردة» علماء لاهوت يتحدثون بأسلوب راق أما هنا فأبطالها رعاع يتحدثون بالشعبية العامية. ليس لدى ايكو رغبة في الحديث عن طريقته في الكتابة، فهو يكتب في أي وقت، بعد جمع خطاطات وخرائط وبورتوريهات لشخصيات. الحزن يبدأ عندما تنتهي الرواية، ماركيز كان يتحدث عقب كل قصة عن ميت يحتاج إلى جنازة وتأبين أو إلى حداد طويل.