إذا كان التعصب الرياضي سبباً للعداوات والخلاف اليوم حتى بين أبناء الأسرة الواحدة، فقد كان سبباً لحب هذا التربوي الكبير الذي كان يدير موجات التعصب بين المشجعين من الطلاب بروح مرحة وألفاظ ساخرة تشيع جواً من الود بينهم بعيداً عن الأحقاد.. ولم تكن هذه العلاقة لتخرج عن حدود الاحترام ولكل مقامه، ولكل مقام مقال، فهذا المربي الذي كان من أكثر الإداريين التصاقاً بالطلاب لبساطته، هو من أشدهم بأساً عند تجاوز الخطوط الحمراء.. كان الأستاذ عاشقاً للنادي الأهلي وواحداً من أعضائه البارزين، وكنا مجموعة من الطلاب مال بنا الهوى للاتحاد؛ فقد كان سيد الملاعب إبَّان نشأتنا وكنا نقتنص الفرصة إذا ما فاز الاتحاد على الأهلي ونسير أمام مكتبه الذي يشرف على ممر المدرسة الطويل في الدور الثاني بنافذة زجاجية عريضة ونُلوِّح له بالنتيجة، وكان يتبسم لفعلنا ولا يزيد على أن يلوِّح لنا بالعصا يخرجها من تحت المكتب.. كان الأستاذ إسماعيل أثناء الحصص الدراسية لا يهدأ في مكتبه فتراه جائلاً بين الفصول ليضبط إيقاعها. كان التجاوز على المعلم وآداب المدرسة عنده جريمة كبرى لا يتنازل فيها عن المتطاولين. كنا نطلق عليه إسماعيل شرطة في إشارة إلى رجل الشرطة الشهير (بدري أبوكلبشة) في مسلسل صح النوم؛ الذي تراه حاضراً في مواقع الجريمة أثناء وقوعها مرجعاً ذلك إلى حاسة الشم لديه التي لا تخطئ، غير أن الأستاذ إسماعيل كانت جولاته بحرص التربوي على هيبة المعلم والمدرسة. حدث أن تعالت أصواتنا في حضرة أحد المعلمين وكان ماراً بجوار الفصل، طرق باب الفصل وفتح المعلم الباب وطلب منه على الفور أن ينتظره في الإدارة، ما كان للأستاذ إسماعيل أن يتحدث مع المعلم فهو يحفظ للمعلم قدره أمام الطلاب ويعلم أن عتابه أمامهم يزيده ضعفاً في المستقبل المنظور.. ران الصمت علينا وكأن على رؤوسنا الطير من هول الموقف إجلالاً له، ما كان له ليعاقب ثلاثين طالباً بجريرة اثنين أو ثلاثة واكتفى بكلمات كانت أشد وقعاً من النبال.. تناهى إلى سمعه ذات يوم أن طالباً يحمل بعض الصور المشبوهة وتتناقلها أيدي زملائه بين معترض عليها ومستمتع بما فيها بنزوة الشباب، فما كان منه إلا أن داهم الفصل وأخرج الطالب بحقيبته ليتأكد من صحة ما أشيع وعندما ثبت عليه ما قيل استوقفه أمام الإدارة حتى يحضر والده.. خشينا على الطالب من بطش والده وقلنا لماذا لا يعاقبه كغيره من الطلاب، لماذا يستدعي والده بشأن الصور؟ وبقليل من التدبر تدرك أن المربي العظيم إسماعيل كمال أراد أن يقول لوالده إن هناك خللاً تربوياً مرده البيت ولا بد أن يلتفت لابنه إن كان هناك ما يشغله عنه.. لقد أُسقط في يد ولي الأمر وهو يتصفح الصور وكاد يبطش بولده من شدة الضرب لولا أن تداركه الأستاذ إسماعيل وعنَّفه على قسوته وإهماله الذي لولاه ما بلغ ابنه هذا المبلغ وكأنما يقول له: إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص.. كان يدرك الأستاذ أن أساس التربية يوضع في البيت وما على المدرسة إلا رفع البناء، ومتى كان الأساس متيناً شمخ بصاحبه، ومتى كان واهياً هوى به، وأن حظ الإنسان من العلم مرهون بقدرته على كسب المعرفة والعلوم لكن نصيبه من التربية والأدب لا بد أن يؤتاه وافياً في البيت والمدرسة بلا تمييز ولا تفضيل، وكان دائم الترديد لقول أبي العلاء: وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه.. لقد كانت قناعاته لا تخرج عن قناعة فيلسوف التربية ابن سحنون التي أوردها في رسالته (آداب المعلمين) في أن نجاح التعليم لا يمكن أن يتأتى دون تعاون البيت والمدرسة وأن إخلال أحدهما بواجباته وبال على التربية والتعليم. الطريف أن هذا المربي لا يُرى غاضباً حتى عند العقاب وكأنما أدرك بفطرة المربي أن الغضب يخرج به عن الاعتدال إلى الشطط في العقوبة.. كان الأستاذ إسماعيل لطيف المعشر، سخي النفس، حاضر السخرية والنكتة ولا يتخلى عنهما في أي مجلس يدعى إليه. حاوره أحد المعلمين ذات يوم حول استخدامه للعصا، فقال له: أدب الصبي ثلاث درر، وأنا أكتفي بواحدة ولك ثلاثين، فضحك الحضور.. في آخر مناسبة اجتماعية حضرها التف حوله بعض طلابه فقال لهم سلوا الله لي حسن الخاتمة وبلغوا زملاءكم أن يذكروني بهذا الدعاء، فمنذ عرفناه كانت آماله معلقة بالآخرة وما فتئ يصلي على سيد الدنيا محمد نبي الرحمة في كل لحظة وحين.. هذا المربي الكبير الذي كان ينشر الفرح في من حوله اختاره الله في أيام الفرح؛ ففي الثاني من شوال 1439ه لقي الأستاذ إسماعيل عبدالرحمن كمال وجه ربه بعد معاناة مع المرض. أسأل الله أن يسكنه فسيح جناته وأن يجزيه خير الجزاء.