كان مظهره في اليوم الأول من العام الدراسي 1394ه غير مألوف بالنسبة لنا، كان غريباً عن كل المعلمين الذين عرفناهم في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، فقد ولج الفصل بحقيبة «سامسونايت» فاخرة، وكانت عادة المعلمين أن يحملوا الحقائب الجلدية، وكان يلبس ثوباً من القطن عالي الجودة في زمن شاعت فيه أقمشة (السلك)، وكان يبسط كفيه على حقيبته فيبرز لنا خاتم الفيروز الذي يندر أن تراه تلك الأيام، فقد كانت خواتم العقيق هي أكثر ما يتختم به الرجال.. كانت ملامحه الصخرية تبث الرعب في نفوسنا، وعيناه الصارمتان تشيان بالجدية وعدم الانكسار وكأنما تبعث رسالة لكل طالب تقول له الزم حدودك فهذا أستاذ لا يقبل أنصاف الحلول ولن يجرؤ أحدكم على الهزل أثناء الدرس أو إثارة الشغب. قدم لنا نفسه (سعيد علي بديوي - مدرس اللغة العربية) وكفى، ومعظمنا لم يكن على وفاق مع دروس اللغة العربية فجميعنا يرغب في القسم العلمي، وهذا ما حدث بعد أن جاوزنا الصف الأول وكان الفصل الرابع في ثانوية الشاطئ التي تضم ستة عشر فصلاً للسنة الأولى تتدرج حسب السن ونسبة النجاح في المرحلة المتوسطة.. كانت الحصة الأولى هي حصة إثبات الذات لهذا المعلم الذي كان ذلك اليوم يومه الأول في ثانوية الشاطئ، التي يديرها علم الإدارة المدرسية الأستاذ جميل عبدالجبار.. لم نكن نعلم أن وراء الملامح الصخرية لهذا المعلم قلب جابر العثرات وأن العينين الصارمتين من أسرع العيون فيضاناً بالدمع في مواقف الألم.. كان معلماً مشحوناً بالإنسانية، لا يتوقف عن التواصل مع أولياء الأمور إن رأى على الطالب ما يحزنه.. هو مؤدب الفصل والشارع وحتى البيت إن رأى خللاً من ولي الأمر.. كان تأنيبه أشد وطئًا على النفس من العصا حتى ليرجو الطالب الضرب ولا التأنيب.. لقد كان التعليم عنده كالهواء يجب أن يناله كل طالب ولا يمتنع عنه لأي سبب كان.. فلم يعرف عنه أنه أوصد الأبواب في وجه طالب، وإن تعثر القبول عنده سعى له في مدرسة أخرى، وإن تعثر وكان ولي الأمر معسراً شاركه دفع الرسوم في مدرسة خاصة.. قصدته ذات يوم بعد سنوات من التخرج لتسجيل طالب وخشيت أن لا يمر قبوله لاكتمال العدد.. فقلت له هذا الطالب من طرف الوالدة فقبله على الفور، وعدت له في العام التالي بنفس الطلب فلما أقبلت عليه قال ضاحكاً: مقعد الوالدة محجوز.. كان الأستاذ سعيد في مجالسه الخاصة ومشاركاته زملاءه وطلابه في رحلاتهم المدرسية وغير المدرسية صورة أخرى غير التي نراها في الفصل فقد كان صاحب نكتة وتعليقات ظريفة ساخرة يأنس بها الجميع.. لم تكن لتخطئه فراسة الأستاذ جميل الذي يعرف معادن الرجال، فبعد عام واحد رشحه وكيلاً للأستاذ إسماعيل كمال رحمه الله في ثانوية قريش التي انتقل إليها بعض أساتذة الشاطئ. ولما غادر الأستاذ إسماعيل كمال للولايات المتحدة مبتعثاً للماجستير رشح الأستاذ جميل وكيله الآخر المربي الكبير الأستاذ السيد هاشم جفري لإدارة قريش وأعاد الأستاذ سعيد بديوي وكيلاً له.. لقد كان الثلاثة هاشم وإسماعيل وسعيد روحاً من روح جميل في الإدارة والحزم وإن تفاوتت بعض صفاتهم.. لقد كانوا خير رجاله بل عصاه التي يتوكأ عليها لتحقيق مآربه في التربية والتعليم في أعلى مراتبها.. وكما خرج الأستاذ إسماعيل كمال من عباءة الأستاذ جميل كأول مدير لثانوية قريش خرج الأستاذ سعيد كأول مدير لثانوية عثمان بن عثمان. فالثقة في جميل ورجاله لا يتسرب إليها الشك عند عامة الناس وعند أي مسؤول في التعليم. وكانت عثمان فيما بعد مدرسة يشار لها بالبنان ولا زال طلابها يتذاكرون أيامه بالإجلال والتقدير.. لقد كان الأستاذ سعيد الذي دخل علينا بمظهر يدل على الثراء غير ذلك تماماً ومرده حاتمية الرجل في الإنفاق على نفسه وأهله، ولم يكن ليمر شهر دون وليمة فارهة لجماعته القادمين من قريته (قمهدة) أو الباحة أو لأصدقائه وزملائه، عدا إسهاماته في أفراحهم وأتراحهم، وكان السؤال الذي يدور ويتكرر على ألسنة الضيوف بعد كل وليمة (فين سويت الندي) وعندما يجيب يقولون جربناه ولم يكن بهذا الطعم، والطعم ليس من شأن المطبخ إنما شأن النفس الزكية التي كان الكرم من أجلّ خصالها.. انتقل الأستاذ سعيد مديراً للأكاديمية السعودية في ألمانيا، وهناك يلتقي بالرجل الخالد في تاريخ الإعلام الأستاذ عباس غزاوي الذي أخطأه الإعلام وأصابته الديبلوماسية والذي كان سفيراً في ألمانيا، ولم تكن فراسة عباس إلا كفراسة جميل فوقف إلى جواره وسانده للارتقاء بمستوى الأكاديمية، ونهض بها كما يرجو عباس وكان محل تقدير الجميع هناك سفيراً وأساتذة وأولياء أمور وطلابا، فالذهب يلمع أينما كان.. وفي نهاية المدة عاد إلى أرض الوطن وعمل مفتشاً في تعليم العاصمة المقدسة. كانت الوظيفة دون إمكاناته ولا تليق بتاريخه وقدراته وكفاءته لكن أعداء النجاح كثيرون؛ فالنزيه عندهم شديد والمخلص عنيد والحازم لا يتقيد بالتعليمات، ولأن نفسه لا تقبل بيئة الصراع وفطرته تأبى المشاحنات فقد آثر التقاعد.. كان تقاعد التربوي العظيم سعيد بديوي ليس خسارة للتعليم فحسب بل لكل طالب تلزمه ملكات التربوي الحاذق التي تأخذ بيده إلى طريق النجاح.. كان تقاعده موتاً بطيئاً له فلديه ما يضيفه للتربية والتعليم وهو أقدر القادرين على العطاء.. وفي رمضان 1440ه وبعد أن صام يوم السابع عشر يوم بدر الكبرى لقي وجه ربه يوم الخميس الثامن عشر منه، رحمه الله رحمة الأبرار وأنزله منازل الأخيار فقد كان واحداً من أعظم المجاهدين لإصلاح التربية والتعليم..