المملكة العربية السعودية، منذ تأسيسها على يد البطل المؤسس الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وحتى هذا العصر التنموي الذهبي الذي يقوده الملك الصالح، رائد التعليم، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - وفقه الله وألبسه ثوب الصحة والعافية - بحكمتها وحنكتها أولت جانب التعليم جلّ اهتمامها، دخل التعليم كل بيت وسار قطاره حتى الهجر، فلم يعد ثمة جاهل، يعتذر بجهله، بعدم تمكنه من الدراسة والتعلم، حتى صرنا بالكاد نسمع عن تعليم محو الأمية، بعد أن كان حاضراً بقوة في الأمس، هذا أمر مسلّم به، لا أظن من يطارحني فيه ويجادلني، وكان التعليم في بداياته وإلى وقت قريب (لذاته) لذا تجد الجدية والمثابرة والمنافسة في جودة تحصيله ومخرجاته (لا ينتطح في ذلك عنزان) دعونا عن الفترات ما قبل الثمانينات الهجرية، فتلك الفترات لست فيها شاهد عيان حتى أبدي رأيي حولها، لكنها بالتأكيد أفضل من لاحقتها، من خلال الشواهد وما ثبت بالأدلة القاطعة الناقلة لنا عبر الأسفار (الكتب) والرواة الأوائل، سوف أقصر الحديث عن فترتي التي عشتها حتى أبتعد عن الشطح، كنا (بالزلفي) في العقد الأخير من الثمانينيات الهجرية، نتذوق الدراسة ونتخذها مهنة، نعتبرها شاقة لسبب واحد فقط، يوم أن كان المعلم والطالب حريصين، حرصاً لا يشوبه شائب، كان المعلم حريصاً على أداء رسالته الشريفة، يقدم فيها مصلحة الطالب قبل كل شيء، لا يقتصر على دوره داخل المدرسة، بل تجده متابعاً لطلابه خارجها، لا سيما أهل القرى والمدن الصغيرة، وكان الطلاب يتنافسون على الفوز بالدرجات العلى. كان وقتها يعتبر المدرس أباً للطالب، يخاف منه الأخير أكثر من خوفه من والده، لدينا في بلدة (علقة) بالزلفي في التسعينيات الهجرية رجل، ولا كل الرجال، ساهم بحزمه مع المدرس قبل الطالب، استطاع أن يخرّج أجيالاً تبوأت مراكز مهمّة بالدولة، كنا نفرّ من ملاقاته بالشارع، فرارنا من الأسد من قوة هيبته، عينه على طلاب المدرسة خارج وقت الدراسة، مما يعني أنه كان في ذلك الحين يطبق مفهوم التربية قبل التعليم (إي والله) يا جماعة الخير، إنه المربي الفاضل الأستاذ (عبدالله بن محمد السيف) مدير المدرسة الفيصلية بعلقة التي تخرجت منها، هذا الرجل قامة من قامات التعليم بالزلفي، الكل من أترابي أو من كان قبلي أو جاء بعدي، يدين له بالفضل بعد الله، همّه الأول والأخير مصلحة الطالب ولا شيء، غيور على طلابه، الزلفيفي تلك الفترة، تزخر بأمثال هذا المعلّم الفذ ليس بالوسع جهلهم، هذا الرجل ومن تحت يده من المعلمين، تعلمنا منهم معنى التعليم والتربية في ذيك الفترة رغم قسوتهم علينا، أقل وصف كنا نطلقه عليهم آنذاك، أنهم منزوعي الرحمة - هكذا نعتقد - كانوا يعاقبوننا أشد العقاب، عقاباً لا يتصوره جيل اليوم (جيل النت) ولا يمكن لهم تصديقه، ولم يضرنا شيء، لم أذكر أن جاء والدي - رحمه الله - ولا والد أي طالب يتذمر من ضرب ابنه أو عقابه، بل يعده أولياء الأمور آنذاك عيباً كبيراً لا بد من تجاوزه، ولم نسمع قط في تلك الفترة إلى عهد قريب، أن قام طالب بتعقب أستاذه والتربص به وملاحقته وضربه وإيذائه أو إلحاق الضرر بسيارته، كان الأستاذ في تلك الفترات الجيدة والممتعة، يملك(هيبة السلطان) داخل المدرسة وخارجها، أما اليوم، فالله المستعان، لا أملك غير القول بحقه (مسكين والله مسكين) فهو (مأكول مذموم) (يمشي مع الساس) من يَعدْ من هؤلاء المعلمين إلى (أمه) بعد يومه الدراسي، سالماً معافى، فكأنما للتو ولدته أمه، كل صباح وهو ذاهب لمدرسته (أمه المسكينة) تودعه بتعويذة (أعيذك بكلمات الله التامات من شر طلاب اليوم) المشكلة أن (آفة الاعتداء على المعلمين) سرت في مراحل التعليم المتقدم، ولعلكم سمعتم الاعتداءات بالسلاح الأبيض والناري في بعض الأحياء، فيا ترى ما سبب ذلك؟ نحن نعلم علم اليقين أن (من أمن العقوبة فقد أساء الأدب) وهؤلاء الطلاب المعتدون استغلوا التهاون في تأديبهم والوقوف في صفهم من خلال حزمات التعاميم التي تحذر من عقابهم، حتى فهموها بالمقلوب وظنوها لصالحهم ووقف بجانبهم - وللأسف - أولياء أمورهم، فالويل الويل لك أيها المعلم المسكين، ليس من الطالب فحسب، بل من (ذيبه) المتربص بالبيت، وبهذه الآلية انقلبت المفاهيم التربوية ( والشكوى لله) فأصبح الطالب يهدد الأستاذ ويتربص به الدوائر، وعجز رجالات التربية والتعليم لدينا، عن إيجاد آلية تربوية، تعيد للمعلم مجده وهيبته، كي نستحضر قيمته التي عرفناها من قول الشاعر: (قم للمعلم وفّه التبجيلا... كاد المعلم أن يكون رسولا) أرأف بحال المعلمين في مراحل تعليمنا، عندما أسمع منهم القصص شبه الخيالية (لا، لا، لا) أبداً الحال لا تسر، الحال مزعجة، الحال مؤرقة، الحال مقلقة، كل هذه الحالات، تجر تعليمنا لحفر ومطبات، ربما ندفع ثمنها غالياً في القريب، ونحن غافلون لاهون في التنظير والتسويف، متلذذون بإصدار التعاميم التي تساهم في ضياع هوية المعلم، وتحد من إبداعاته، وتساهم في تثبيط عزيمته، وليس خاف على ذي لب، قيمة الشباب وحيويتهم، فهم سواعد البناء وحديده الصلب «واسمنته» الممتاز، فإذا ما وجدوا تربية صارمة وتعليماً جدياً، فقد وضعنا يدنا على الجرح، وأعددنا جيل المستقبل، وإلا فقد آن لأبي حنيفة أن يمد رجله... ودمتم بخير. [email protected]