لنقلب المفاهيم لنعرف زمننا، فقد سبق أن كتبت أن الموهبة هي من الله لا تباع ولا تمنح. وقد استوعبت المجتمعات أهمية وجود المواهب في حياتها وعملت على تقديمها والاحتفاء بها،ولَم يكن العرب ببعيدين عن تقدير وتثمين أي موهبة تبزغ، وتحمل لنا كتب السير كيف احتفت القبائل بظهور شاعر من أبنائها وكيف أنها تقدمه ليكون فخرها وزهواً بين القبائل الأخرى. ومنذ أن تم إفساد ذمم الشعراء بقول المديح مقابل إلقاء قصيدة على مسامع الممدوح لكي يجزيه المال الوفير مع أن الممدوح يعلم علم اليقين أن المادح لم يصدق في مدحه، ومنذ زمن املأوا فمه ذهبا حدث انكسار في ماهية استقبال الفنون على أنها موهبة لا تباع ولا تمنح وظلت هذه الحالة تجر أذيال الاسترزاق وكان الشعر (ديوان العرب) هو المثابر في الاسترزاق إلى أن وصل محطة رثة تتمثل في وجود مكاتب لبيع القصائد عبر تحديد أسعار الأشعار وبيعها لتنثر على مسامع الناس في الأعراس وكأنها خروف سوف ينحر في وليمة أو ينحر على مسامع عشيقة. وهذا التردي هو انعكاس حقيقي للحالة الاستهلاكية التي جرفت كل شيء فغدت المواهب محل بيع وتربح. ويحدث هذا في المجتمعات التي فرطت في مواهب أبنائها لتحيلهم إلى جيف تنهشها الحيوانات الجارحة. وكلما ظلت الموهبة في منأى عن فخاخ البيع والشراء ظلت عصمة ورفعة للمكان الذي أفرز تلك الموهبة.. وظلت أيضا كإشارة لرفعة الوطن الذي يحافظ على مواهبه. ولكي نعرف الفرق بيننا وبين المجتمعات الأخرى فإن الغرب لا يسمح لك أن تبيع نفسك أو تشتري غيرك. وهذه هي العصمة. تلك العصمة لم تعد ناجعة الآن. فالمواهب تعيش في زمن انزلاق ثقافي ليس المتسبب المؤسسات الثقافية، فقد كانت هذه المؤسسات تتحمل لوم أي عابر من غير الاهتمام بما يقال، ولأننا نعيش في زمن الانزلاق الثقافي في مواقع التواصل الاجتماعي، لم يعد بمقدور أحد حماية الموهوبين الحقيقيين، فكل المواهب تخطف بالإهمال أو بالاستهلاك الفج، ولم يعد هناك بيع أو شراء، أو تنصيب، أو إشادة، هي معضلة حقيقية يعيشها المحيط الإبداعي على مستوى العالم، وتحتاج إلى تأسيس خبرات تنقذ المواهب المتهافتة على سُرُج لها إضاءة ضئيلة أمام الإضاءة الباهرة لمواقع التواصل، وهذه الإضاءة الباهرة ما زالت تحرق عشرات المبدعين في كل مجال. سوف أعاود طرق هذا الموضوع من زوايا الواقع الثقافي الجديد.