حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    جدّة الظاهري    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د, الغذامي يهاجم الشعراء الدكتاتوريين ,, ويصف الفحل
محاضرة الغذامي بحث استقصائي في الأنساق الثقافية
نشر في الجزيرة يوم 21 - 09 - 2000

أقيمت مؤخراً وفي قاعة المحاضرات بمؤسسة الملك فيصل الخيرية بالرياض محاضرة بعنوان النقد الثقافي، النظرية ووجوه تطبيقها ألقاها استاذ النقد الدكتور عبدالله بن محمد الغذامي وقدم هذه المحاضرة الدكتور سلطان القحطاني والذي استهل تقديمه للضيف المحاضر بسرد سيرة ذاتية للناقد الغذامي استعرض بها مسيرته الأدبية مسبوقة بسيرته الذاتية والعملية.
ونوه مدير المحاضرة الدكتور القحطاني بدور المحاضر، واهتمامه باللغة، والأدب,, واصفا اياه بأنه متنبي العصر الذي ينام ملء جفونه بعد القاء الشعر فيما يترك الآخرين في خصام دائم حول ما قال,.
وبعد تقديم المحاضر وتحية الحضور ألقى الناقد الاستاذ الدكتور عبدالله الغذامي محاضرته التي ارتجلها وجاءت على هذا النحو:
ان ألطف ما قاله المتنبي انه نام ملء جفونه,, والذين يعرفون مشكلتي مع الأرق الذي أعيش معه منذ اكثر من ثلاثين سنة سيفرحون لي ان أنا نمت ملء جفوني فعلا,, لأنني ما نمت ولم انم ولعلي ان شاء الله أنام يوما ملء جفوني.
تصادقت مع الأرق كثيرا الى ان صار الخل الوفي الذي لا يخلف وعدا، ولا يتذمر مني ولا يغضب مهما طلبت منه الفراق وحاولت ان اتخلص منه فلم أر وفيا كالأرق في وفائه,, ثم انني اشكر مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث، والاستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد الذي رغب وأصر وتابع وحرص ان أكون ضيفا على هذه الوجوه الكريمة لاتحدث معهم، وجعل البداية معي ولعلكم تجدون فيما أقول ما يستأهل مجيئكم وصبركم واستماعكم.
الحديث الذي سأتقدم فيه اليكم ينصب على موضوع الكتاب النقد الثقافي,, قراءة في الانساق الثقافية العربية وفي الاصل كان العنوان النقد الثقافي,, مقدمة نظرية,, قراءة في الانساق الثقافية العربية,, ولأمر ما حذف جملة مقدمة نظرية ولم يشرح لي حتى الآن لِمَ حذفها,, لكنني كنت افضل لو ان الجملة بقيت.
على أي حال لا يزال الكتاب بالنسبة لي هو مقدمة للنظرية يتلوها قراءة في الانساق الثقافية العربية,, وسأطلب منكم واستميحكم العذر بأن افرض النظرية مع علمي بأن النظريات عادة ما تكون ثقيلة الدم، وشديدة على النفس لكنني سأعرضها باختصار شديد لن يزيد إن شاء الله على خمسة عشر دقيقة وبعدها سأدخل في موضوعات ربما تكون اخف على النفس في جلسة كهذه.
كنت مهموما ولوقت ليس باليسير حول مسألة النقد الأدبي وما يقدمه في حياتنا كأمة عربية اسلامية لها قضاياها ولها همومها الكثيرة والمتشابكة والمعقدة والفرد يشعر في بعض اللحظات من مسؤوليته الذاتية عن أمته وعن هذا الدور الذي يقوم به في حياة هذه الأمة وهو يفعل فعلا في هذا السياق للأمة؟!
حدث عندي كثيرا في تعاملاتي مع النقد الأدبي في عناية النقد الشديدة بجماليات النصوص، وجماليات القصائد وبدأت اشعر ان هذا السؤال قد يكون ترفا,, فالأمة احوج الى غيره منه ثم ان الامر يشتبك في مسألة اخرى وهي ان الانسان اذا اشتغل لمدة ليست باليسيرة مع امر ما قد يشعر بأن المسألة بلغت حد التشبع، وانه صار يقول كلاما ربما قاله من قبل فيشعر انه يكرر ذاته.
هذه الاحاسيس كمأزق لانسان جرب العمل تضافرت مع بعضها الى حد انني بدأت اشعر انه لابد لي ان أغادر مواقعي الى مواقع أشعر معها بانني اكثر حيوية مع نفسي، وأشعر ان فائدة ما أقول هي اكثر في هذه المسألة ,, فبدأت افكر في مسألة الدخول الى حياتنا العربية من مدخلها الثقافي وان انتقل من عالم الأدب الى عالم الثقافة وهذا سيقتضي أولا الا اتخلى عن شيء تدربت عليه تدربا على مدى طويل في النقد الأدبي.
فالسؤال الآن هل بامكان النقد الأدبي بأدواته ونظرياته المدربة ان يتحول نوعيا من كونه أدبيا الى كونه ثقافيا؟ فينفتح حينئذ على مجالات أوسع وأرحب لاسيما واننا نشعر وندرك أكثر ما يؤثر في الناس هي النصوص التي قد لا نسميها أدبية وان الأشياء التي هي أقل تأثيرا في الناس هي الأشياء التي نسميها أدبية ويكفي ان نتذكر الآن ايهما أشد اغاني بعض المطربين والمطربات الآن من حيث التأثير على الناس أم قصائد أدونيس احمد شوقي، المتنبي الى آخره.
مهما قلنا عن هؤلاء اعجابا أو تقديرا فاننا سنعود مرة أخرى ونشعر ان التغيير الحقيقي في عامة الناس في جمهور الأمة في العقلية الذهنية للمجتمع العربي كله هو لنصوص اخرى دائما لا ننظر اليها ولا نقف عليها، ولا نتعاطف معها,, فاذن اين وظيفة الرجل، او المرأة الذي يتصدى أي واحد منهم لمهمة ثقافية ونقدية,, هل نحن نعيش مع النخبة ومن اجل النخبة؟ وهي نخبة لا تحتاجنا في الغالب بينما الفئة التي تحتاجنا نحن غافلون عنها؟ هذا هو السؤال الذي جعلني اجري هذه النقلة النوعية من النقد الادبي الى النقد الثقافي.
وتقوم النظرية هنا على مجموعة من المحاور أولها ان النقد الأدبي يقوم على نظرية الاتصال التي تقوم على ستة عناصر مرسل، مرسل اليه، رسالة، أداة اتصال، سياق، شفرة وهذه العناصر الستة حينما دخل ياكبسون ونقلها من نظرية الاعلان الى نظرية الأدب ليستعين بها ويعرف الأدب فقال ان الأدب هو حينما تركز الرسالة على نفسها تجري العملية الأدبية,, لكي احور هذا المفهوم وادخل البعد النقدي الثقافي اقترحت عنصرا سابعا هو العنصر النسقي فالنسق حينئذ سيكون عنصرا سابعا مع العناصر الستة حينئذ سنضيف عبر هذا العنصر الجديد النسقي .
كما انني أرى ان ادخاله لأغراض اجرائية لأنه اذا ما تحقق وقبلنا من حيث المبدأ هذا العنصر النسقي فان النص أيضا سيتكون من ثلاث دلالات,, الأولى هي الدلالة الصريحة، والتي تأتي من الجملة النحوية، والدلالة الثانية الدلالة الضمنية وهي التي يشتغل عليها الأدب، والثالثة هي الدلالة المقترحة وهي الدلالة النسقية,, وهذه النسقية هي الدلالة التي تصاحب الكينونة ,, كينونة الخطاب يتلو هذا انه سيكون بين أيدينا ثلاثة أنواع من الجمل هي الجملة النحوية وهي مرتبطة بدلالة صريحة، الجملة الأدبية مرتبطة بدلالة ضمنية، الجملة الثقافية وهي الجملة المقترحة في هذا النموذج وهي مرتبطة بالدلالة النسقية، وحينئذ سنكون أمام نوع جديد من المؤلفين هو المؤلف النسقي فالمؤلف لم يعد هو الذي يؤلف النص وينسب اليه، ولكن الثقافة من تحت المؤلف تتحرك لتأليف النص.
النسق الثقافي في هذه الحالة سيفضي بنا الى تحديد الشروط اللازمة في الخطاب النسقي والذي يتمثل في نسقين احدهما مضمر وهذا المضمر يكون نقيضا للواعي ويكون النص حينئذ مشترطا ان يكون جميلا وجماهيريا وهذه النظرية هي نظرية في نقد الذات وأعتذر هنا بأن الكلام كعادة أي كلام نظري يكون ثقيلا والتوصيل فيه قد لا يكون دقيقا لا مني كأداة ولا من حيث ان الموضوع واسع لكنني اعتمد ان شاء الله ان الكتاب سيوضح النظرية.
سأدخل الآن الى المجال الأهم الذي هو مجال حديثنا الليلة عبر هذه النظرية وأنا أعرف ان تقديمها مبتسر وليس دقيقا بكل تأكيد لكن عبر هذه النظرية باجراءاتها الاصطلاحية التي جعلتها ضوابط لي لكي اعيد قراءة التراث بدأت في قراءة الشخصية العربية من مدخل أساس وهو مدخل النص الأدبي.
والذي جعلني اعتمد على النص الأدبي ان الشيء الذي نقتنع به ونتفق عليه هو مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الشعر بأنه علم قوم لم يكن لهم على سواه، والشعر كان هو علم الأمة وأزعم انه لم يزل هو علم الأمة,, هو سجلها وسجل ضميرها سجل وجدانها، وسجل احاسيسها وقد نقول ان هذا جيد وجميل لكن في الوقت ذاته أنا أدعي عبر هذا النموذج انه مضر وضرره كان بالغا بشكل خطير، وسأتتبع الضرر كيف نشأ ومتى نشأ والى ما؟ والمسافة التي عبرها في احداث الضرر فينا,, مع الاقرار بالاستمرار ان الشعر العربي الجميل يستحق ان نفتخر به ولنا ان نفتخر بالشعر العربي وهذه مسلمة نتفق عليها لكنني أقلب الصفحة الأخرى وأقول ان هذا الجميل ضار وان هذا الذي افتخرنا فيه في الوقت الذي هو سجلنا وبكل تأكيد هو سجلنا، وبما انه سجلنا فانه حمل الينا جماليات ثقافتنا، وعيوبها.
واذا أردنا ان نبحث في عيوب الشخصية العربية والذات العربية فاننا سنجدها عبر هذا السجل بما انه المدونة وهو الديوان الذي سنكشف في داخله وعبره عن عيوب هذه الشخصية.
ازعم ان تغيرا جذريا جرى في نهاية العصر الجاهلي هذا التغير صار مع نشوء ممالك جديدة في شمال الجزيرة العربية هذه الممالك التي نشأت في شمال الجزيرة كانت متأثرة بالنموذج الامبراطوري المجاور لها من فرس، ومن رومان وبما انها تأثرت به فانها حاولت ان تتلبس في المجد الامبراطوري لكنها تحمل النسق القبلي العشائري,, فهي خليط من نسقين,, النسقط الامبراطوري المستورد والمتشبه به من الفرس والرومان وكون الرجال الذين حكموا هم من نسل القبيلة وثقافة القبيلة.
وبما ان الرجل وقف بوصفه ملكا فالملك حينئذ سيسعى بالضرورة الى التحلي بالصفات الامبراطورية وصفات الملك، وصفات المجد عن العرب تقوم على صفتين مركزيتين هما الشجاعة والكرم,, فالمجد الذي يرتبط بالملك كامبراطورية او كحاكم سيكتمل حينئذ بأن تكتمل له الصفات المجيدة في الثقافة وهي صفات الشجاعة والكرم.
ويمكن لنا ان نشبه ما حدث بالسوق التجارية كما هو في زمننا الآن حصل فرص اشبه ما تكون بالفرص التجارية فالفرص الثقافية تجسد ان الشاعر جاء لكي يجد هذه الفرصة امامه عبر استخدام المديح مما اكد ظهور ظاهرة المادح والممدوح في ثقافتنا في العصر الجاهلي بل في نهايته فهذه الظاهرة رسخت نوعا من القيم الجديدة ما بين شاعر يمدح وحاكم يمدح، وبينهما مال يعطى,, فهذه صفقات تجارية واضحة بين مرسل ومرسل اليه وبينهما رسالة,, اما ما حدث الآن ان المسألة لا تقف عند شاعر يمدح وحاكم يمتدح انما القضية ان الصفات صارت تعطى وتبذل من اجل المال وهذه الصفات ليست صادقة والطرف الآخر يكتسب صفاته لا بفعله ولكنه بما انه يعطي مالا وتمنح له هذه الصفات اذن فالآن قد حصل سلب,, فصل ما بين الصفة كمكتسب ناتج عن عمل والصفة كشيء يشترى بالمال، وهناك من عنده استعداد بأن يقدم هذه الصفة من اجل ان يحصل على مال، فحصل هنا تزييف للقيم,, فهذا الشاعر زيف اهم قيمتين في ثقافتنا قيمة الشجاعة، وقيمة الكرم ,, فالأصل في الكرم انه قيمة حياتية للانسان البدوي في صحرائه,, الاعرابي البدوي كريم لسبب عملي يتعلق في مسألة الحفاظ على النوع لأنه اذا سادت فكرة استقبال الضيف، وتقديم الضيافة له فمعناها انك تؤمن كبدوي فكرة حياتك باستمرار فلا بد ان يعيش المجتمع على مفهوم الضيافة.
فلو تخلى المجتمع عن هذا المفهوم الضيافة فالذي سيحدث انك كمنتمي الى هذا المجتمع ستتعرض للهلاك في مرة من المرات,, اذن الكرم ليس فقط هو من ذات تدفع وتعطي الآخر، وايضا ان الذات نفسها تفعل هذا لكي تؤمن لحظة آخر لذاتها قد تقع في الموقع نفسه فبالتالي تجد من يكرمها ويبقى على حياتها,, اذن الكرم في الحياة القبلية هو حفاظ على النوع، والبقاء واستمرار الحياة,, لأنها حاجة ستظل في الأفق الذهني ان لم تحدث اليوم فستحدث غدا لذلك لابد ان اكون انا كريما مع ضيوفي لكي يكونوا غدا كرماء معي فيما لو احتجت اليهم اذن هي قيمة انسانية تقوم على البذل والعطاء على علاقات التبادل بين الناس,, لكن الذي حدث حينما وصف الممدوح بالكرم ان الصفة انتقلت من كونها الانساني الى كون مصطنع فاصبحت مجرد كذبة متفق عليها بين القائل كمادح يعلم انه كاذب وكذلك الممدوح يعلم ايضا ان القائل كاذب لذلك حدث تواطؤ وقبول للكذب ,, فصار هناك تزييف للقيمة، والخطاب، وحالة الاستقبال فاصبح الخطاب الثقافي اذن مغرقا بالتزييف والكذب وتحويل القيم من حالتها التجارية البحتة التي تقوم على الكذب المتفق عليه وليس الكذب الذي يقوم على المخادعة,, فالثقافة اذن اتفقت في كافة اطرافها على هذا الخطاب الكاذب والمزيف فصار حينئذ الحاكم نفسه هو صنيعة كاريكاتورية للمادح,, وكذلك المادح ايضا صنيعة كاريكاتورية للممدوح ايضا لانه هو الذي يستجره الى هذا العمل فبالتالي تحولت الى صنائع وهمية كرتونية,, لتجسد لنا هذه الانساق التي تمخضت عنها خلاصة العصر الجاهلي.
ثم جاء الاسلام ولا أحد يجادل في عظمة الرسالة الاسلامية كما انه لا أحد يجادل أيضا انه للأسف الشديد هذه انتهت مع نهاية الخليفة الرابع ولما جاء العصر الأموي أعاد بشكل متعمد ومقصود النظام النسقي الثقافي الجاهلي فعادت لعبة المادح والممدوح بنفس المواصفات ونفس الصفات وصارت مرة اخرى بدلا من العلاقات الانسانية للقيم ظلت العلاقات المزيفة لهذه العلاقات,, ثم جاء عصر التدوين في العصر العباسي ليدون العودة الجاهلية ويرسخها عبر التدوين، وتستمر الى اليوم,, فالخطاب الاعلامي اذا ما تمعنا به اليوم سنلاحظ انه يلعب اللعبة ذاتها,, بمعنى ان هناك مادح وممدوح وسآتي الى امور كثيرة تتعلق بذلك ,, ولكن قبل ان استمر في هذه النقطة,, هناك نقطة أخرى لابد من الوقوف عليها وهي ما أسميه اختراع الفحل.
أرى ان اختراع الفحل جاءت في البداية من صوت الشاعر في القبيلة,, وتشير المدونات الى ان الشاعر سقط مداحا فصار الخطيب أهم من الشاعر,, لكن القضية الأهم ان الخطيب أيضا يتقمص نفس الصفات والحالات التي يفعلها الشاعر,.
أما ما أقصده باختراع الأنا ان في الاصل الشاعر بما انه صوت القبيلة كان يتكلم عبر ضمير النحن والنحن في القصيدة كانت هي القبيلة في مجملها على لسان هذا الشاعر لكنها تحولت مع الزمن من النحن القبلية الى الأنا المفردة,, فالشاعر أنا,, والنحن أنا أيضا,, وهذه الأنا الفحولية الأنا الشاعرة مشكلتها انها لا تمجد الذات فحسب ولكنها تلغي الآخر,, الفحل دائما يقوم على الغاء غيره فهذه هنا علة وخلل يحدث بين الأنا والآخر انفصام كامل بمعنى انني لكي اكون على صواب لابد ان يكون الآخر مخطئا وبالضرورة لكي أبقى لابد من نفي الآخر,, والقضاء عليه وهذا التصور يرد دائما في الخطاب الشعري,, كل الخطاب الشعري يقول هذا,, من اوله الى أمس نزار قباني وأدونيس.
كلنا وللأسف الشديد نقول انه مجاز شعري وانهم يقولون مالا يفعلون وان هذا خيال,, نعم مجاز شعري وخيال ونقبل هذا ولكن اذا اكتشفنا ان هذا المجال الشعري ينتقل من الخطاب الاجتماعي والسياسي وتظهر شخصية سي السيد كما في روايات نجيب محفوظ,, وهذه الشخصية عند نجيب محفوظ هي صورة لكل حالات الطبقية الاجتماعية في بيئاتنا بلا استثناء على الاطلاق.
لماذا أتهم الشعر بهذه الصفات؟ اتهم الشعر لسبب رئيسي انه لو اكتفت التجربة الشعرية الأدبية في كينونتها الخاصة كتجربة جمالية لا غبار على ذلك ولا شيء في ذلك ايضا,, لكن حينما تنتقد وتؤثر على الخطابات الأخرى وتنتقل من كونها خطابا مجازيا الى تكون ممارسة اجتماعية وسلوك اجتماعي معنى هذا ان الشعر في الوقت الذي هو مجاز وجميل هو ضار وحقيقي والأمثلة كثيرةولو أخذنا لعبة المادح والممدوح وما يتمخض عنها من تزييف للقيم وقبول خطاب ثقافي كاذب وكل الاطراف تقبل به، وأخذنا الأنا الفحولية التي تقوم بالضرورة على الغاء الآخر فلا تقيم هنا تعدد او مساوات اريحية، رحابة، تعامل، علاقات انسانية بين البشر فاذا اخذنا هذا كله وانتقلنا من حالة الشعر لكي لا يظن اننا نحكي عن الشعر بما انه شعر ولكننا في الواقع نتكلم عن نسق ثقافي، وحياة بشرية وانسانية.
وسأقول هنا كلاما بلاشك نتفق عليه ولا يمكن لنا ان نختلف حوله,, ففي الخمسينات وفي الستينات كل الذين عاشوا هذه الفترة كنا نطبل ونصفق امام جهاز مذياع على اي يجري في الوطن العربي ونصفه بأنه تحرر من الاستعمار والرجعية,, وبناء للوطن، و,, و,, و,, ثم نفاجأ بأن هذا الانقلاب يقوم عليه انقلاب آخر، وان الاخر يصف الانقلاب الأول بالخيانة,, وهذه جرت وبعض الأخوان الذين زاروا بغداد، وأنا من الذين زرت وذهبوا الى الجندي المجهول ونزلوا للمتحف الحربي وعادة يذهب معك رجل بزيه العسكري يطلعك على اشياء من بينها بندقية ويشير اليها فيقول انها البندقية التي استعملها السيد الرئيس صدام حسين حفظه الله لاغتيال الطاغية عبدالكريم قاسم,, تأمل بهذا الرجل الذي يقول لك بأن رئيس جمهورية مغتال فمن المفروض ان يتستر على هذا التاريخ وتسكت عنه,, ثم اذا كان عبدالكريم قاسم طاغية فماذا سيكون صدام حسين اذن؟!,, هذا السؤال بسيط,, فهو طاغية مكان طاغية,, بالضبط مثله مثل النموذج الشعري فحل مكان فحل,, جرير والفرزدق فحلان كل يحاول الغاء الآخر,, وهذا صدام وعبدالكريم قاسم طاغية مكان طاغية.
واذا ما رجعنا الى قصائد نزار قباني وحللناها وتمعنا بها سنجد انه في يوم من الايام وبالحرف الواحد انه يطالب بقوة ردع أدبية تعتقل وتعذب ناقدي الشاعر,, شاعر يدعو للحرية والديمقراطية اذن يريد ان يعتقل الذين ينتقدهم ويسجنهم فماذا فعل اذن صدام حسين,, بمعنى ان الاثنين شيء واحد وان اختلفت الكلمات فالنسق واحد مما يعني انه اذا قلنا قبل قليل ان قيمة الكرم تحولت من معناها الانساني الى معناها المزيف الكاذب لنأخذ اذن الكلمات التالية: الثورة، الوطنية، الخيانة تجد ان كل هذه المصطلحات فالثورة حينما تحولت من معناها الحقيقي كثورة وتغيير لصالح المجتمعات تصبح مجرد انقلاب مثلما تغير مفهوم الكرم من قيمته الانسانية الى قيمته الاستبدادية الكاذبة,, وكذلك الوطنية، والخيانة في اختلاف اوجهها ومعطياتها.
فتغيير القيم من معناها الانساني الحق ببعدها الشمولي الذي يتساوى به البشر الى هذا البعد الذاتي الفردي الذي يجعل قيمة واحدة تختلف عن بقية القيم.
حينما نأتي مستمرين الى تجربتنا الأدبية وندخل الى زمن الحداثة، وزمن الحداثة كما يظن الكثيرون وانا مسؤول ان اكون منهم انها تغيير جذري في نسق الثقافة العربية,, لكن أي تغيير هذا؟! فعندما ننظر في رموز الحداثة وخاصة أدونيس ,, عندما نقرأ خطابه منذ طفولته الى آخر كتاب كتبه تجد الأنا المتضخمة في طرحه الذي يرى بأن الحداثة قد انحصرت بالشعر والشعر على هذا النوع من النسقية,, فأي حداثة ستحدث عندنا؟! هل هي الحداثة التي تقوم على تضخيم الأنا,,؟ ونفي الآخر واللاعقلانية واللامنطقية كما هو شرط الشعر,, فالشعر لا منطقي ولاعقلي وبما ان الشعر لاعقلاني ولامنطقي فالحداثة بالضرورة ستكون لا عقلانية ولامنطقية,, اي نوع من التحديث الذهني سيجري للأمة,,؟! اذن هي حداثة رجعية.
واذا ما رجعنا الى خطاب أدونيس وهو فصل كامل في الكتاب يوضح بشكل خطير جدا ان كل الاعجاب الجمالي والمجاز الشعري والتغيير اللغوي والابداعي هو في الظاهر فحسب لكن في النسق الذي تحت لا يختلف أدونيس عن المتنبي,, وانا هنا الاشارة للكتاب حكيت عن المتنبي بأنه الشحاذ العظيم والكذاب العظيم,, وابي تمام الذي كنا نقول عنه مثالا اول للتجديد هو مثال أعمق للرجعية وللتعاسة النسقية وطالما ان الشعر هو ديواننا في الاول وهو ايضا مشروعنا في الحداثة معناه ان عيوبنا كشخصية العربية الثقافية هي الذات التي تشعر وتقول بالانسانية والعدالة والمساواة لكن متى ما تسلمت سدة الأمر تحولت الى دكتاتورية وكلنا نشتكي من المثقف المستنير الانساني لكن حينما يتسلم امرا من الأمور لا هو مستنير ولا انساني بل يصبح جبارا آخر اذن هناك علة في الانساق الثقافية أزعم انها جاءت بسبب تحول الشعر الى اربعة أشياء هي:
* شعرنة الذات.
* شعرنة القيم.
* شعرنة الرؤية.
* اختراع الفحل.
فهذه الاقسام الاربعة هي خطاب بلاغي خطير,, فيما يطل اخطرها على الاطلاق هو العنصر الرابع اختراع الفحل هذا الفحل الذي استمر من عمر بن كلثوم الى غد أو بعد غد بمعنى ان هذا الفحل الذي يعتقد انه لكي يكون قويا لابد من اخضاع كل الآخرين ولا يوجد احساس بأن قويا مع قوي يشكل قوة للأمة,هذه العلل في ثقافتنا والتي ما لم نبدأ ونكون على قدر من الشجاعة بالذات اولا ومواجهة ثقافتنا فاننا سنظل ندور فيما سميته العمى الثقافي الذي تعمى به بصيرتنا عن عيوب تفترسنا وتفترس دواخلنا دون ان نهتم بها,, وأنا لا أدعو هنا للانصراف عن الشعر ولا التخلي عن التذوق للشعر لكن الذي ادعو اليه هو ان نفصل بين جمال الشعر وبين شعرنة القيم والذات والرؤية واختراع الفحل فتحول الشعر الى ان يكون هو النسق العام لكل انواع خطاباتنا ولسلوكياتنا ايضا.
وما ان أتم المحاضر الدكتور عبدالله الغذامي حديثه عن الانساق الثقافية حتى جاء دور الحضور فكانت المداخلات من كل من د, منصور الحازمي، وعزت خطاب، د, عبدالعزيز السبيل، محمد الأسمري، محمد العثيم د, سعد القحطاني، وعبدالعزيز الوهيبي، اضافة الى ورود العديد من الاسئلة من الحضور والذي علق عليها المحاضر بشكل موجز.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.