الرياض – يوسف الكهفي عُرفٌ جسَّده المتنبي وتوارثته الأجيال. عبده خال: المداح ليس أميناً على كلمته.. ولن يكون صادقاً مع الممدوح. سعدية مفرح: إن قبلنا باجترار «الشرهة» فعلينا أن نقبل بفكرة الجواري والرقيق. مساعد الرشيدي: العلاقة بين المتنبي وسيف الدولة الحمداني أعمق من الشرهة. عناد المطيري: شعراء كُثُر اتخذوا من الشعر سُلَّماً ليصلوا إلى مبتغاهم المادي. سطام الشلفان: الشعراء لم يحصلوا على القيمتين المادية والمعنوية مقابل ما قدموه. الشادي: إذا كان مسعى المبدع نبيلاً ويخدم الصالح العام فمن حقه أن يتكسب من إبداعه. مسفر الدوسري: إذا وجد الشعراء سيف دولة فليفعلوا ما يشاءون. أصايل نجد: حب بعض الشخصيات للظهور من خلال كلمات مدح الشعراء سيبقى. فرضت العادات والتقاليد القديمة مصطلح ال «شرهة» على المجتمعات الخليجية، وذلك في زمن الندرة حينما كان شيخ القبيلة يجزل العطايا للشعراء والمداحين ويساعد الضعفاء الذين يقصدونه سواء من رعيته أو ممن قدموا إليه من أماكن بعيدة بعد أن يذيع صيته بالعطاء، ومع مرور الزمن بدأت تلك العادة في الضمور خاصة بعد تحول الفرد إلى مؤسسات، ووفرة فرص العمل التي تحفظ للإنسان ماء وجهه وكرامته، إلا أن كثيراً من الشعراء ظلوا متمسكين بهذه العادات، وإن عابهم أحد ذهبوا إلى أبعد من العادات وأعراف القبيلة وقالوا: «المتنبي كان يمارس هذا الفعل مع سيف الدولة الحمداني». اجترار عادات عبده خال يقول الأديب عبده خال: «علينا ألا ننسى أننا نبت حقيقي لعادات وتقاليد قديمة وهذه العادات والتقاليد غالباً ما يتم اجترارها عبر الزمن وتظل حاضرة بحضور الوعاء القبلي والوعاء ال «مشايخي» لكون شيخ القبيلة في ذلك الزمن -زمن الندرة – هو الواهب بعد الله، وهو المغطِّي لاحتياجات من حوله، ثم مع التطور الزمني والوصول إلى زمن الوفرة ظلت العادة مسيطرة وغالبة، وبها عنصران وهما: عنصر الواهب وعنصر الموهوب، ولذلك لا يمكن النظر لها بمعزل عن هذا السياق العاداتي في الاكتساب والارتزاق، ولكن بعد أن تحوَّل الفرد الواحد إلى مؤسسات تمنح الفرد دخلاً شهرياً أحدث هذا نوعاً من الضمور لهذه العادة وهذا التقليد، إلا هناك من ظل يعيش على التسكع وعلى طرق الأبواب للحصول على هذه الهبة أو بما تسمى ب «الشرهة». الشرهة والإبداع وأضاف: «أنا أخالف من يقول إن الشرهة مقترنة بالإبداع والمبدعين، فقد يكون المبدع أبعد الناس عن هذا التسكع، لأن ذلك يتعارض تماماً مع منطلقه الفكري، ولا بد أن نضع المبدع الذي نتحدث عنه بين قوسين حتى نقول إن المبدع الحقيقي الذي يسعى إلى إجلاء الواقع والوقوف منه موقف المنتقد وليس المتصالح المسيَّر، فعندما يكون المبدع بهذه الصيغة هو دائماً يقف في مواجهة لأي هبة؛ لأنه ينظر إليها بمنظار التسول وعدم التساوي، وأن هذه صنعة المداحين، وأيضاً من منطلق الاعتزاز بأنه يمتلك ثروته الداخلية التي يتحول من خلالها إلى هبة إبداعية، فالهبة مناقضة تماماً لأن تكون مستقلاً في رأيك». المتنبي نموذجاً وزاد خال: «بعض الشعراء يرون أن المتنبي يعتبر أنموذجاً بالنسبة لهم في هذه المسألة تحديداً، أو في حادثة سبقت، فكما ذكرت أن المسألة هي اجترار عادات وتقاليد قديمة جداً في زمن الندرة وتغيرت مع زمن الوفرة، وأن تكون مداحاً وتتقاضى مقابل قولك وإبداعك فأنت أساساً لست أميناً على كلمتك، وبالتالي لن تكون أميناً وصادقاً مع الممدوح، ومن المفترض أن يعلم الممدوح أنك تستجديه ولا تمدحه. انتشار الترزق والتربح بالإبداع هي بالنسبة لي نوع من شراء الذمم، فإن تقبل أن تُشترَى ذمتك فأنت لست ذا قيمة من الأساس، وبالتالي لم تُقم لذاتك مكانة، فلا قيمة لما تقول. أما يكون المتنبي أنموذجاً أو بقية الشعراء الذين كانوا يهبهم السلطان في الزمن الماضي، فهذا يرجع إلى أنه لم تكن في ذلك الوقت المؤسسات التي تمنحك وظيفة لتسترزق منها، ومع ذلك حتى أن التصنيف الشعري القديم وضع غرضاً اسمه غرض المدح وهو الغرض الذي يتم فيه استجلاب القصائد المادحة، وبمجرد أن تسميها قصائد مدح فأنت تسقطها من مصداقيتها، بمعنى أن تأخذها في حيِّز محدد ومعروف بأنك لم تقل هذا القول إلا من أجل المدح، فهذا التصنيف هو إدخال القصيدة نفسها في أنها تحمل معاني ومضامين غير حقيقية، لأنها قيلت في مجال المدح. في زمننا الراهن أعتقد أنه جريمة أن تتحول أو تسترزق بشعرك وإبداعك؛ لأن الزمن تغيَّر وتحولنا من الفرد إلى المؤسسات التي تعطيك مقابل لإبداعك عندما تشارك في مناسبات أو عندما تقوم بنشر إبداعك وبيعه وحصولك على الثمن سواء من الدواوين أو الكتب أو اللوحات وما إلى ذلك. حالات فردية سعدية مفرح واعتبرت الأديبة والشاعرة الكويتية سعدية مفرح «الشرهة» مرضاً يصيب ذوي النفوس الرديئة وممن تتغلب دناءة أنفسهم على إحساسهم بقيمة فكرة الكائن البشري. وقالت «أنا لا أعتبرها ظاهرة بل شذوذاً يؤكد القاعدة التي تقول إن أموال الدنيا كلها لا تساوي القيمة الفكرية أو الإبداعية، ورغم أن حالات الشذوذ كثيرة، إلا أنها تظل حالات فردية لا يمكن مقارنتها كعدد مع الحالات المحترمة والحقيقية». معايير أخلاقية وأضافت: «لا أدري لماذا يحاول البعض أن يلصق هذا المرض بالشعراء وحدهم، بينما نجد أن هناك طوابير لمبدعين آخرين، فكل من يريد أن يبيع جزءاً من كرامته ويتنازل عن كثير من كبريائه وقيمة إبداعه إن كان مبدعاً فعلاً مقابل الشرهة يبيعها بغض النظر عن الشكل الذي يبيعها فيه؛ قصيدة أو مقالة، أو كتاب، أو أي وسيلة أخرى. ومن المضحك فعلاً العذر الظريف الذي يسوقه المتلبسون بهذه التهمة المكشوفة عندما يتحججون أن «الشرهة» كانت دائماً معروفة في التراث العربي، ورغم المغالطات التاريخية التي تحف بمثل هذه الحكايات ومع تسليمنا بصحة الفكرة فيها، إلا أن من يتحجج بها يجهل أو يتجاهل حركة التاريخ والتطور الإنساني فيه، كما أنه يتعمد اتخاذ معايير أخلاقية كانت مقبولة إلى حد ما في سياق تاريخي وإنساني وحضاري معين لتكون معاييره الراهنة، وهذا لا يجوز أبداً. فإن قبلنا بالتعامل وفقاً لهذا المنطق علينا إذاً أن نقبل بفكرة الجواري والرقيق وغيرها من الأفكار التي كانت سائدة وتحظى بقبول اجتماعي سابقاً. سلوك شخصي مسفر الدوسري ويتساءل الشاعر مسفر الدوسري: هل يتكفل المجتمع بحفظ كرامة المبدع؟.. حتى يكون لنا الحق حينها في إدانته لو جعل ذلك الإبداع وسيلة لهدر تلك الكرامة. وقال: «بالنسبة لي، أعتبر ذلك سلوكاً شخصياً بحتاً قد لا أرتضيه لنفسي، ولكنه لا يعنيني كمتلقٍّ، ولا يحق لي الحكم على مبدع على ضوئه، ما يعنيني هو ما ينتجه ذلك المبدع من إبداع فقط، وفي النهاية إذا وجد الشعراء سيف دولة فليفعلوا ما يشاءون». أعمق من شرهة ويرى الشاعر مساعد الرشيدي أن العلاقة بين المتنبي وسيف الدولة عميقة وقال: «العلاقة بين سيف الدولة والمتنبي ليست معيبة، فقد خلقت قائداً عظيماً وشاعراً لم تنجب الدنيا مثله، ومن وجهة نظري أن علاقتهما كانت أعمق من شرهة. سلم الشعر مساعد الرشيدي وقال الشاعر عناد المطيري: «كثير من الشعراء يعتقد أن الشعر هو مفتاح لأبواب الرزق، وأنا أرى أن الشعر يجب أن يعكس الصورة الجميلة التي هي في داخل الشاعر التي تقتدي بخصال العرب من كرم وإباء وشهامة، فلا يجب أن يتخذ الشاعر من الشعر سلماً ليصل إلى مبتغاه المادي أو السقوط إلى دائرة التسوُّل لأجل أن يحصل على الهبة أو الشرهة. الشاعر إنسان فيجب أن تكون القصيدة في داخله هي عنوانه وتخرج من الأعماق، فيجب أن تجسد الصدق، وحتى إن كان الشاعر في قمة الاحتياج فيجب أن لا يطلبها من خلال الشعر، أنا أتحدث هنا عن الشاعر الحقيقي والمبدع الحقيقي وخاصة من يحظى بجماهيرية وحضور إعلامي، فحينما تحصل على الشهرة والحضور الجماهيري وتسخِّر هذا الحضور لهذه الغاية، هنا أنا أعتب على الشاعر، لكن الشاعر المغمور الذي يقول قصيدة وهو غير معروف ولا يجيد إلا هذه اللغة ويقدمها للآخر بطلب المساعدة، هذه حالة استثنائية صحيح أنها ممقوتة ولكنها غير مؤثرة على من يمتلك الإبداع والقيم والإنسانية. دائرة الضوء ويضيف المطيري «أعتقد أن دائرة الضوء خدعت شعراء كثيرين اعتقدوا أن هذه الدائرة تفرض لهم حقوقاً على الآخرين وتعطيهم مزيداً من المال عكس الآخر غير المعروف، دون مراعاة أنه بإمكاني أن أكون شاعراً وأحترم النص الشعري وأعمل وأمارس البحث عن المال بطريقة تبقي لي صيغة الإنسانية التي لا تنزلق في مزالق الحاجة للآخرين». وحول من يتخذ المتنبي أنموذجاً في هذا المجال يقول المطيري: «المتنبي -وحتى جزء من تاريخنا العربي- بالنسبة لي لا أقف أمامه بكثير من الإعجاب، نعم المتنبي شاعر عظيم وله قدراته الإبداعية دون شك، ولكن المتنبي أضاع عمره وهو من مكان إلى مكان على الراحلة لطلب تحقيق نرجسيته، وفي النهاية أنا أعتقد أن أهم ما يقيد الشاعر في داخله هو قيمه وأخلاقه، فإن عرفها وتمسك بها فليكتب على ضوئها ما يشاء». أخلاق وتسامٍ صالح الشادي من جانبه، قال الشاعر الدكتور صالح الشادي: «إذا كان مسعى المبدع نبيلاً ويخدم الصالح العام فمن حقه أن يتكسب من إبداعه، فالكل يسعى لمكتسبات في هذه الحياة شريطة أن يكون الأمر في دائرة الأخلاق والتسامي والرقي. موظفون بسطاء وأوضحت الشاعرة السعودية أصايل نجد أن هذا الموضوع بات منتشراً علناً وقالت: «أغلب الشعراء من الموظفين البسطاء وأعتقد أنهم أوجدوا لأنفسهم باب رزق يساعدهم على العيش في رغد، وأنا لا أجيز ولا أنتقد ولكن هذه هي الحقيقة، الأغلب يبحث عن باب رزق سهل ليتماشى مع العصر، وطالما هناك من يدفع سيبقى هناك شعراء يتكسبون من خلال شعرهم سواء ببيع قصائدهم أو بمدح إحدى الشخصيات، ولا ننفي حب بعض الشخصيات للظهور من خلال كلمات مدح الشعراء، وسيبقى الحال هكذا طالما هناك من يهوى الإعلام والظهور والشهرة. لفت التاريخ سطام الشلفان وشبه الشاعر سطام الشلفان الشعراء ب «الدول المنكوبة» وقال: «الضوء مسلط على الشعراء في كل ما يحصلون عليه حين يشتكون أو حين يبدعون بلا شكوى، أي حين يثنون على من يستحق الثناء، ولو قارنَّا نسبياً بين الشعراء والرياضيين والسياسيين.. لوجدنا الشعراء هم النسبة الأقل حصة.. ليس لأني لم أسعَ لها، بل لعلمي بقصص رويت لي من أصحابها.. بأنهم لم يحصلوا على القيمتين المادية والمعنوية مقابل ما قدموه لأناس احتاجوا إلى لفت نظر التاريخ لهم».