لم يكن بحسبان أكثر المتفائلين أن تتوصل اجتماعات «أوبك +» إلى أي اتفاق عدا تمديد الاتفاق الحالي إلى ما بعد مارس القادم 2020، خاصة في ظل التصريحات المتناقضة التي سبقت اجتماعات الخميس والجمعة الماضيين، وأيضا وضوح الخلافات في وجهات نظر كبار أعضاء تحالف الأوبك. ويبدو أن التحالف كان يفتقد لدور قيادي كان قد غاب لفترة من الوقت، وهو الدور السعودي في ممارسة مهارات التفاوض الدولي للتوصل إلى صيغ توفيقية ترضي جميع الأطراف. وما زاد الوضع تعقيدا هو التجاوزات التي كان عليها الاتفاق الحالي لتحالف الأوبك وعدم الالتزام بالتخفيضات الإنتاجية، والتغطية التي تمت ممارستها من إعلام الدول المنتجة؛ بحجة أن الالتزام بالاتفاق قد تجاوز ال100%، حتى أن المخالفين أنفسهم قد بدأوا يصدقون أنهم ملتزمون. وإذا أردنا تحديد العوامل التي أدت إلى الإسراع في إيجاد الاتفاق الذي بين أيدينا، والذي تجاوز حدود التفاؤل الذي سبق الاجتماعات، وذلك بتعميق تخفيض الإنتاج ب500 ألف برميل يوميا تضاف إلى التخفيض القائم حاليا ليصبح مجموع التخفيض 1.7 مليون برميل يوميا وإلى نهاية مارس من العام القادم، نجد أن هذه العوامل تتلخص في النقاط التالية: أولا: القيادة الجديدة لوفد المملكة برئاسة سمو الوزير عبدالعزيز بن سلمان، الرجل ذي الخبرة الطويلة تفوق الثلاثين عاما بين أروقة منظمة أوبك وأسواق النفط العالمية والمؤتمرات الدولية التي شارك فيها، ودوره الرئيس في صياغة إستراتيجية أوبك طويلة الأمد. ناهيك عن عشقه الدائم لمهنته هذه، حيث إن طول المدة لا يعني شيئا إذا لم يصاحبه الشغف والرغبة الشديدة في ما كان ولا يزال يقوم به. وكانت هذه الاجتماعات هي أول اجتماعات يشارك فيها بصفته وزيرا للطاقة، فأظهر خبرته ومهارته في التوفيق بين الآراء والمقترحات المختلفة، منطلقا من أسلوب الأخذ والعطاء، ومنطلقا من نقاط القوة العديدة التي تمتلكها المملكة من حيث طاقتها الإنتاجية النفطية، وأيضا تاريخها الطويل في ممارسة دور «المنتج المرجح» سواء في حالة نقص الإمدادات أو في حالة وجود فائض في الأسواق، وهي التي تعرف متى تمارسه ويشهد لها التاريخ بذلك منذ السبعينات من القرن الماضي. ثانيا: ما كان يُزعج المملكة منذ انطلاقة تعاون المنتجين من خارج المنظمة مع أوبك، هو المخالفات التي كانت عليها بعض الدول الأعضاء في التحالف، وتقديمها لمختلف الحجج للتهرب من الالتزام، لكن هذه لم تنطل على بقية دول التحالف، بل إن المملكة قد سبقت اجتماعات الأسبوع الماضي بالإعلان عن تذمرها من هذه المخالفات الإنتاجية، وأرسلت تهديدا مبطنا بأنها لن تتقبل من الآن وصاعدا هذه المخالفات، وأنها لن تسمح بوجود «راكب مجاني» «FREE RIDER» في إطار هذا الاتفاق. وبدأت المملكة الاجتماعات بتأكيد ذلك، وهو ما استهلك جزءا كبيرا من اجتماعات الخميس الماضي، بشكل لم يتعوده بعض أعضاء التحالف بأن يقضوا جزءا كبيرا من وقتهم داخل الأبواب المغلقة ليتعلموا درسا في كيفية الالتزام بالحصص وتأثير المخالفات على الجميع، وأنها مكشوفة لا يمكن في ظل التقنيات المتبعة حديثا إخفاؤها، وأن الاستمرار في اتباعها «سيهدم المعبد على الجميع»، كما يُقال. ثالثا: إن سكرتارية الأوبك التي كانت أكثر من جاهزة ومن خلال اجتماعات لخبراء دول التحالف التي سبقت الاجتماع الرسمي، قد أوضحت جميع السيناريوهات التي تواجه التحالف، واحتمالات تأثر الأسعار سلبا بوجود فائض في المعروض العالمي من النفط العام القادم الذي نحن على مشارفه. ولم يكن بوسع الخبراء إخفاء حقائق السوق القادمة، خاصة أنهم خلف الأبواب المغلقة، وهذه الحقائق تتلخص في 3 عوامل رئيسية: 1- أن هنالك تباطؤا كبيرا في معدلات نمو الطلب العالمي على النفط العام القادم، نتيجة للعديد من العوامل، أبرزها التباطؤ المحتمل جدا لمعدلات النمو الاقتصادي العالمي، بسبب ضعف الإنتاج الصناعي العالمي والحروب التجارية القائمة والمرشحة للتصعيد، ناهيك عن التأثيرات الهيكلية للسياسات والإجراءات المتبعة عالميا للتأثير في معدلات الطلب على النفط عالميا، بما في ذلك إجراءات مواجهة تغير المناخ المحتمل التي نجح الغرب في إقناع كثير من الدول بتبنيها بحجة تسريع إنهاء عصر النفط. 2- إن هنالك مزيدا من المعروض النفطي العالمي القادم للأسواق العام القادم بما لا يقل عن 2.3 مليون برميل يوميا، وهي أكبر زيادة سنوية تشهدها سوق النفط العالمية منذ 1978. 3- إن التوترات الإقليمية التي كنا نتوقع حدوثها هذا العام والأعوام القادمة قد هدأت كثيرا، وأصبح الاعتماد عليها لتحقيق ارتفاعات في أسعار النفط ضربا من الخيال إلى حد كبير. رابعا: وبالتالي، فلم يكن أمام تحالف الأوبك من خيارات سوى «المبادرة» بمفاجأة الأسواق بمزيد من تخفيض الإنتاج، بما لا يقل عن 500 ألف برميل يوميا إضافية، بشرط عدم رمي عبء كامل هذه الزيادة في التخفيض على السعودية، والتعهد بالالتزام التام بما تم الاتفاق عليه. خامسا: لم يكن بمقدور من تعود على تجاوز حصصه من تخفيض الإنتاج إلا أن يوافق على هذه الشروط التي أتت من المملكة وتبنتها معظم دول التحالف. وقدم الجميع تعهداتهم بالالتزام، في ظل التهديد الجميل المصحوب بالإغراءات السعودية، بتخفيضها بأكثر مما التزمت به ليصل ذلك إلى ما مجموعه 400 ألف برميل يوميا شرط الالتزام الكامل، وهو ما يحقق قفزة في الأسعار لصالح الجميع، ويعطي مصداقية غير معهودة من تحالف الأوبك للأسواق العالمية. وختاما، فإن تحالف دول «الأوبك +» قد بدأ مرحلة جديدة من التعاون يعطيه استدامة أكبر ومصداقية أفضل ويحقق استقرارا لأسواق النفط العالمية، خاصة في ظل مرحلة قادمة تحيط بها الكثير من الشكوك والغموض، والمفاجآت السارة وغير السارة. ليمثل هذا النهج الجديد تحديا جديدا لبعض كبار المستهلكين الذين راهنوا على انتهاء دور الأوبك وتحالفاتها إلى غير رجعة. وأبارك لمملكتنا الحبيبة استعادتها لدورها القيادي في الوقت المناسب. * كاتب سعودي sabbanms@