عندما كانت الحداثة في مخاض فرض نفسها على مواطن الإمكان في عالمنا العربي، كانت الصحوة الإسلاموية تجابه الحداثة بكل ما أوتيت من وسائل في سبيل إلجام رموزها بل وإخراجهم من ساحة الصراع مهزومين دون أي مكاسب ولا أثر. من طبيعة الخطاب التقليدي الادّعاء بأنه صمام أمان المجتمع، مع توظيفه بذكاء ما تقوم عليه الدولة العربية من شرعية دينية، كما تنص على ذلك الدساتير والأنظمة، وكانت الدولة العربية، تحسن الظن في الخطاب الديني حتى تسيّس، فبدأت تتعامل مع الإسلام السياسي اليميني بحذر ليقينها أنه أخطر من خطاب الحداثة ذي النزعة اليسارية. لعل من رحمة الله بالمجتمعات العربية أن انقسمت التيارات الدينية على نفسها، وخرج من أشدّها يمينية من يفكك خطابها بذات السلاح (فهم النص) فتراجع الخطاب الأيديولوجي، وانحسر في وعظية مألوفة للبسطاء ويرونها قوتاً يومياً يتم تبادله عبر رسائل الوسائط، ما دفع الحزبيين في حقبة مضت إلى تبني خطاب الأنسنة كبديل يمكن من خلاله العودة للساحة واكتساحها بالتأثير على الجماهير وكسبهم في صف الأدلجة الخشنة عبر طرح ناعم. يمكن القول بخفوت خطاب الحداثة مع انطفاء الخطاب الصحوي، ومثل ما عاد اليوم الإسلام الشعبي للناس، دون الحاجة إلى رموز وقيادات، كذلك تعددت مصادر الحداثة وتنوعت المدخلات الما بعد حداثوية لتنفتح الفضاءات لكتاب وقراء عرب لا أوصياء عليهم ولا آباء. هل خلو الساحة من خطاب معرفي انفتاحي، وغياب خطاب وعظي حضاري، مقدمة لفراغ ثقافي؟ هذا السؤال مطروح عربياً، بل وإسلامياً في الدول غير الصناعية، وفي ظل فقدان الأرضية الصلبة لنمو المثقف العضوي، وعدم إمكانية التصالحية بين خطابين أحدهما ثقافي حداثي وآخر وعظي تقدمي، لا مناص من أدبيات مؤسسات المجتمع المدني، القائم على جمعيات النفع العام، والانتساب المهني، والحِرفي، بعيداً عن الأيديولوجيا. أتصور أن القلق على الأوطان من كل المخاطر الداخلية والخارجية يوجب توفير خطاب وطني، تنتظم في ظله كل الخطابات، وتحمل لواءه الثقافة، حتى لا ندخل دائرة ما يسمى الفراغ الثقافي، وتنحل عرى الثقة بين النخب وبين أفراد المجتمع الذين هم في أمس الحاجة إلى قيادات للوعي والتوجيه، لأنه يبقى للوعي والتوجيه موضع الأهمية القصوى، ولو في خضم الانشغالات اليومية بالهمّ المعيشي.