المدرسة السلفية في السعودية تأثرت بمعطيات محلية وأخرى وافدة خارجية، لكنها لم تنجح في فرض نموذج إسلام سياسي إخواني أو في استنساخ مبدأ ولاية الفقيه رغم رواجها في أوساط الشباب. بعد انحسار المد القومي ونهاية مشروعه الأيديولوجي، انحسرت الموجة القومية في البلاد السعودية لتحل محلها الموجة الإسلامية بديلا فكريا وسياسيا، ولكون المشاريع الإسلامية السياسية توزّعت على خارطة الوطن العربي بسبب ضغط القومية خاصة في مصر، حتى رحل العديد من ممثلي الحركات الإسلامية من مصر: "الإخوان المسلمون بالذات" إلى منطقة الخليج، وقد حطوا رحالهم أكثر في السعودية على اعتبار أنها تمثل الحاضن الديني لعموم المسلمين، واعتمادها على السلفية الحنبلية/ التيمية/الوهابية، مما سهّل استغلالها لنشر الإيديولوجيا الإخوانية. إن المجتمع المثالي في نظر الأصوليات الإسلامية هو المجتمع الذي يتحدد وفق الانتماء الديني؛ "فالدين هو العامل الحاسم في تكوينه تكوينا أخلاقيا ونفسيا، وهو إطاره العام الثابت الذي لا يتغير، الأمر الذي يفسح المجال أمام جملة من الإشكاليات المريرة في فهم الاجتماع، وفي تقرير البرامج الإصلاحية وتأويل النصوص القرآنية في مواجهة المتغيرات التي لا تتوقف من عولمة الاقتصاد إلى شبكة الاتصالات الكونية الواسعة إلى المتغيرات المتسارعة في أنماط الحياة والعادات، فضلا عن التكنولوجيا التي لا تغير أساليب الإنتاج فحسب، بل ربما الإنسان المعاصر نفسه". ولأن المجتمع السعودي استطاع التأقلم مع المتغيرات الحياتية المتمثلة في النهضة العمرانية والمجتمعية مع المحافظة على القيم الإسلامية؛ فقد كان مؤهلا لغرس الفكر الأصولي الحركي ليرحل عديد رموز الفكر الأصولي، والإخواني بالذات، إلى الداخل السعودي ويتبوأوا مناطق مهمة في المنظومة التعليمية كالجامعات والمدارس، وليقوموا فيما بعد بالتأثير على قطاع عريض من أبناء المجتمع عن طريق ممازجة الفكر الوهابي مع الفكر القطبي لتتأسس من هذه المزاوجة حركة جديدة سميت ب"الصحوة الإسلامية". قبيل تلك الفترة، وتحديدا في العام 1966 كانت قد تأسست "الجماعة السلفية المحتسبة"، والتي سميت بعد ذلك ب"أهل الحديث" لاعتمادها تصحيح الأحاديث النبوية، قادها الشيخ محمد ناصر الألباني "1914- 1999"، قبل أن يتسلم قيادتها العلمية الشيخ عبد العزيز بن باز "1912- 1999"، وكان الألباني من القلائل الذين أثروا على الفكر الأصولي في السعودية، لتنتج حركة أخرى منبثقة من داخلها انحرفت عنها وخرجت عليها؛ قادها جهيمان العتيبي رغم بساطته الفكرية. أفكار هذه الحركة تقوم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه السياسي، ورفض المنجزات العصرية والتحولات القيمية التي أثرت على المجتمع. وهي منشورة في رسائله "الإمارة والبيعة والطاعة" و"مختصر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وغيرها، وهي الحركة التي استحلت الحرم المكي في أول يوم من العام 1400ه "1979 م" لتدشن مرحلة جديدة من الحراك الإسلامي داخل المجتمع السعودي، ولتصبغ كافة جوانب الحياة السعودية بفكر ديني جديد. وبسبب الطفرة الاقتصادية وتحولات المجتمع السعودي، وتوسع المعطيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، تشكل خطاب ثقافي مغاير للتوجه الأصولي تزامن مع تأثير الطفرة على الواقع السعودي رغم أنه لم يستطع النزول إلى طيات المجتمع ليعيد تشكيل رؤاه الثقافية والاجتماعية وبقي محصورا في الأوساط الثقافية لا غير. تمثل ذلك في عدد من المثقفين الشباب، الذين دخلوا في المجال الثقافي من بوابة الأدب والنقد، والبعض منهم كان له اتصال بالثقافة خارج الحدود السعودية حيث تلقى تعليمه العالي في الغرب، وعاد محملا ببعض الرؤى التي يمكن اعتبارها صدمة ثقافية على المجتمع، الذي لم يشهد تحولات عنيفة يمكن لها أن تستوعب هذه المتغيرات الثقافية، التي أتى بها بعض شبابه المثقف من الخارج، والذي عرف حينها بفكر "الحداثة"، وإن كان مقتصراً على الجانب الأدبي والنقدي منه، ولم يرتقِ إلى جانبه الفكري أو الفلسفي. إلا أنه شكل هزة عنيفة في الوجدان الجمعي، ومنعطفاً حادا في الرؤية الثقافية لدى جيل عريض من أبناء المجتمع السعودي، وقد كان أكثرهم متصلا بالصحافة أكثر مما جعل لهم موجة ثقافية صادمة سببت لهم نوعا من الهجوم الفكري المضاد لما يكتبونه من أعمال أدبية أو شعرية، تمثل بهجوم في الصحف والمحاضرات الدينية، والتسجيلات الصوتية، وعلى منابر الجمعة والمؤلفات السريعة ككتاب "الحداثة في ميزان الإسلام" للدكتور عوض القرني، أحد رموز الفكر الصحوي، وقدم له عبد العزيز بن باز، وقد تم الاحتفاء بهذا الكتاب لأنه شنع على كل رموز الحداثة ومتداوليها في العالم العربي أو في الوسط الثقافي السعودي. وساد المجتمع السعودي تصور بأن هؤلاء الحداثيين كانوا علمانيين وملحدين وغير ذلك من الأوصاف؛ إضافة إلى أن هذا الخطاب الثقافي لم يكن خطابا مبنيا على رؤى فكرية قوية تؤسس لمشروعية وجوده الثقافي داخل المجتمع، مما جعل هذه الموجة الثقافية تنحسر سريعا ليبقى الخطاب الأصولي مستفردا. ومع تفرد الصحوة الإسلامية في الساحة السعودية، بدأت أمواج الشباب السعودي في الانخراط في فكر الصحوة لتعيد صيغة المجتمع وفق الأجندة الفكرية والسياسية التي عملت عليها الصحوة منذ تشكلها على يد "الإخوان المسلمين" القادمين من مصر، ومنهم محمد قطب أخو سيد قطب، والذي كان له أثر كبير في فكر العديد من المشايخ السعوديين، ومن سوريا منهم محمد سرور، والذي تأثر بأفكاره العديد من شباب الصحوة ليتكون"التيار السروري" أو ما يسمى "السلفية الجهادية". برز من تيار الصحوة الإسلامية عديد المشايخ الذين كانت لهم بعض الرؤى السياسية المتشددة في نظر البعض، وتوسع حجم الخطاب الصحوي بعد الحرب الأفغانية/ السوفييتية، ومع انتهاء الحرب تفشت الروح الجهادية في الأوساط الدينية الشبابية، لتأتي أحداث حرب الخليج عام 1990 حيث جنح الخطاب الصحوي إلى التشدد مع قبول الاستعانة بالأجنبي، ونقد الدولة ليأخذ الخطاب الصحوي شكله العنفي، وقد عبر عن نفسه ببعض البيانات الإصلاحية والمسيرات الصاخبة، وذلك قبل غياب بعض رموزه الفكرية في السجون وهروب بعضهم الآخر خارج البلاد. من جانبه قام الدكتور غازي القصيبي بنقد الخطاب الصحوي، باعتبار أنه خطاب يحاول أن يؤسس لفكرة الدول الإسلامية وفق مبدأ ولاية الفقيه التي قال بها الخميني في إيران، وقارن بين فكر الصحوة وفكر الخميني حتى في طريقة وسائل نشر الفكر "الكاسيت الإسلامي" كنوع من السجال الثقافي بينه وبين رموز الصحوة، لينحسر المد الصحوي مع غياب رموزه لسنوات عديدة. مما سمح بتشكل خطاب جديد من داخل المنظومة الصحوية الإسلامية التي صدمتها أحداث السنوات الماضية، والناتجة من تشدد التيار الصحوي الذي قاد البلاد إلى نوع من العنف، الأمر الذي استوجب عملية إصلاحية تهدف إلى العمل على التوازن بين الرؤية الدينية والمتغيرات الدولية أو ما يسمى بتيار "الإصلاح الديني"، أو "الخطاب الليبروإسلامي" كونه خطابا مفتوحا من الداخل الإسلامي. المقال خلاصة من بحث شتيوي الغيثي "الإسلاميون في السعودية والجدل الفكري" ضمن كتاب "الإخوان المسلمون والسلفيون في الخليج" "يوليو 2010" الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.