تناولنا في الجزء الأول من هذا التحقيق واقع الدعاة في المجتمع كونه مخترقاً من قبل مجموعة من المحسوبين على الدين؛ ممن أساؤوا للدعوة والدعاة، واستكمالاً لهذا الموضوع نتحدث عن مجتمع الداعيات، خاصةً أنّ هذا المجتمع تم اختراقه من قبل نساء غير مخول لهن رسمياً بالدعوة من قبل وزارة الشؤون الإسلامية، وبدأن يسوّقن أنفسهن في المناسبات العامة والخاصة على أنهن واعظات أو داعيات، ويحضرن إلى المدارس والجامعات، ويؤدين دورهن بأسلوب ترهيبي مكشوف؛ للتحذير من كل جديد، و"فرز نوايا" الآخرين، وفصل "الواقع عن الواقع"، من خلال التأكيد على أن هناك مؤامرة واستهداف من الغرب تحاك ضد المرأة وفصلها عن واقعها المجتمعي!. المرأة الداعية بدايةً يتحدث الكاتب "محمد المحمود" عن تاريخ المرأة الداعية، مؤكداً على أنّ المرأة في التاريخ العربي الإسلامي تقع في الهامش الاجتماعي والثقافي، وكانت في كثير من الأزمنة أحسن حالاً من المرأة لدينا لكن كانت دائما في الهامش، إلا في حالات الاستثناء التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها، ولهذا كان النشاط الدعوي نشاطاً ذكورياً بامتياز على امتداد تاريخنا، ومع هذا يمكن اعتبار نشاط "زينب الغزالي" قبل وبعد التحاقها بجماعة الإخوان هو أول عمل دعوي نسوي ذي طابع مؤسساتي، عمل يعي تميز دوره المنوط به في الميدان النسوي، وفي اعتقادي أنّ البداية الحقيقية للمرأة الداعية بدأت من هنا؛ لأنّ البعد المؤسساتي يدل على أنّ هناك وعياً تاماً بالمهمة "المهنة" من جهة وعلى توفر المستوى الكمي من جهة أخرى. أسلوب ترهيب مكشوف للتحذير من كل جديد و«فرز النوايا» وفصل «الواقع عن الواقع»! النشاط الصحوي وعن انطلاقة المرأة الداعية في السعودية وأسباب تواجدها قال "المحمود": "مع تضخم النشاط الصحوي وحاجته إلى مخاطبة المرأة مباشرة كانت الانطلاقة الحقيقية والدخول في تفاصيل حياتها، وإلى إدراج الجماهيرية النسوية في النشاط الحركي المنظم أو شبه المنظم، فمهما كانت قدرة الداعية الصحوي الرجل على حشد جماهير النساء من خلال الوسائط إلا أنه لا يستطيع إدارة هذا الحشد وترتيب بيته من داخله إلا من خلال (امرأة) تكون حلقة وصل بين القيادات الذكورية وجماهير النساء". نمو المرأة الداعية وحول كيفية نمو ظاهرة المرأة الداعية في المجتمع أوضح "المحمود" أنها نمت في البيئة الصحوية خاصة؛ لأنّها البيئة التي استمدت من الإخوان الطبيعة التنظيمية وتجربة الإخوان في مصر مع المرأة الداعية، وما قمن به إبان محنة الإخوان لم تكن غائبة عن النشاط الصحوي الذي كان رغم سلفيته الخالصة يستلهم النشاط الحركي من تجربة الإخوان، ويشير "النقيدان" إلى أنّها مرتبطة بظهور الإسلام الصحوي الحركي، وكان لابد من توليد هذا الوصف ليجري تسويغ نشاطهن، ويمكن اعتبار الداعيات واعظات في الآن نفسه، ولكن الوصف الأخير غالباً يكون مربوطاً بالتوجيه العفوي الخالص من شوائب الحزبية وحشد الأتباع لتوجه معين. المحمود: هذا ما جنيناه من «الصحوة» والخوف من المستقبل عاملة توزيع الكاسيت وعن أول لقب أطلق على المرأة الداعية يقول "المحمود": "في اعتقادي أنّ أول ظهورها كان في صورة (عاملة توزيع لأشرطة الكاسيت) قبل أن يتعمق أثرها، ومن ثم تبدأ بالقيام بدور صاحب الكاسيت، وتبليغ الرسالة الصحوية إلى النساء في محافلهن الخاصة، وأعتقد أن البداية الزمنية للظهور كانت في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين"، وحول كيفية استقبال المجتمع السعودي النسائي للمرأة الداعية أوضح "المحمود" أنه استقبلها بترحاب، خاصة وأنها تدعم التوجه لتقييد الأنثى، وهو ما ينشده أي مجتمع تقليدي يبحث عن كل ما يقيد به النساء، صحيح أنّ هناك من سدنة التقليدية من تحفّظ قليلاً على توسعها في هذا الدور باعتباره نوعاً من النشاط العام، وأنّ فيه (شبهة ولاية) ولو على النساء! الخطاب الوعظي وأوضحت "أمل زاهد" أنّ ظاهرة الخطاب الوعظي النسوي بدأت مع المد الصحوي الذي ألقى بظلاله ومناشطه ومخيماته على المجتمع السعودي، وبدت بوادر الصحوة تظهر في الأفق في العامين الأخيرين من السبعينيات وبدأ التركيز على لباس المرأة والحديث عن الجهل بتعاليم الدين وعن عدم التزام المجتمع بما جاءت به الشريعة الإسلامية من تعاليم، قائلةً: "انتشر النشاط الوعظي النسائي أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، حيث ولد النشاط على استحياء وبجهود فردية ثم ما لبث أن ثبت جذوره وأرسى دعائمه، وصار سمة من سمات الحياة الاجتماعية للنساء في كافة مناطق المملكة". النقيدان: دورهن مبرمج بين الطالبات في المدارس والجامعات العواطف الدينية وتشير "زاهد" إلى أنّ المجتمع السعودي لم يتعود على وجود المرأة الواعظة ولكنه سرعان ما ألِف الظاهرة، ووجدت فيها النساء ما يشبع عواطفهن الدينية مقدماً في وجبة سمعية سهلة الهضم، وتلعب الثقافة السمعية دورالدعامة الرئيسة في المكون الثقافي والمعرفي للوعي الجمعي الشعبي بشقيه النسائي والرجالي؛ كونها الأسهل والأكثر تداولاً، كما يتم فيها بسهولة شديدة الخلط والالتباس بين البعد العلمي المعرفي وبين البعد النصحي الوعظي، كما تُتهم بأنّها أحد المعابر التي تمرر من خلالها أدبيات الغلو والتشدد والتطرف وأحادية الفكر. التبعية للرجل وأشارت إلى أنّ الثقافة السمعية كانت أكثر قدرة على التسلل إلى الوعي النسائي؛ لأنّ العقلية النسائية العربية تميل إلى امتصاص كافة أنواع الخطاب من دون أية محاولة للنقد نتيجة للتنشئة التي تضخ في عروقها التبعية للرجل وعدم القدرة على التفكير المستقل، وترسخ في لا وعيها اكتساح الجانب العاطفي للجانب العقلي في تكوينها فتشل ملكة التفكير عندها وتتحول إلى كائن مدجن مطيع للأوامر ينتظر دائما من يقوده، كما أنّها تنحو إلى النظرة التقديسية عندما تتعامل مع أية شخصية تخرج من عباءة دينية، وهذه القداسة قد تصل إلى حد الافتتان الذي يقود إلى التبعية المطلقة والانضواء التام تحت لواء المتحدثة باسم الدين. العوائد الجماهيرية وعن كيفية استقبال رجال هذه الشريحة لدخول المرأة للساحة، يشير "المحمود" إلى أنّ ما جناه تيار الصحوة من هذا التوظيف والعوائد الجماهيرية الواسعة؛ أقنعت المترددين بأهمية هذا الدور؛ لهذا أسهم كثيرون في تأسيس دُور ومؤسسات خاصة بالنشاطات الدعوية النسوية التي لا تزال تعمل بهمة عالية؛ لأنّها تعتقد بأنها تفعل ما يقربها إلى الله. من جهته يقول "النقيدان": "أظن أنّ الفكرة العامة عند الذكور عن المرأة بوصفها داعية لاتزال خاضعة لرؤية الرجال نحو المرأة عموماً، وهناك شكاوى من أنّ المرأة الداعية يغلب عليها الانفعال والتشديد في التحريم والسعي للسيطرة الروحية والنفسية على المعجبات بها"، مشيراً إلى أنّه في أواخر ثمانينيات القرن الماضي حتى منتصف التسعينيات ازدهرت ظاهرة المتدينات اللواتي يقمن بوظيفة الإرشاد الديني والوعظ والدعوة بين الطالبات في الكليات والثانويات، وكان لهن سطوة كبيرة على الطالبات وتسببن بمشاكل كبيرة، مستشهداً بإحدى قريباته التي ذكرت له حالات من الهستيريا والصراخ؛ كانت تعصف بالطالبات في كلية التربية للبنات في القصيم وتتطلب حضور الإسعاف. زاهد: «غصب يقنعونك» بنظرية المؤامرة واستهداف الغرب للمرأة! الخطاب النسائي وعن أهم مفردات الخطاب الدعوي النسائي في المملكة، تقول "زاهد": "لو تأملنا الخطاب الوعظي الدعوي النسائي لوجدنا أنه أهم محاوره هو المرأة، وهنا لا بد أن نصطدم بثنائية قضية المرأة وتحريرها من جهة وبالمؤامرة على القيم الإسلامية واستهداف الأسرة العربية لتحطيم استقرارها، فهذه الثنائية هي المحور الرئيس الذي يدور حوله النشاط الدعوي النسائي وذلك منذ بداية انطلاق التنظيمات النسوية وحركة تحرير المرأة في مصر وباقي الأقطار العربية حتى وقتنا الحالي"، مشيرةً إلى أنّ الخطاب الإسلامي يهدف منذ ذلك الوقت إلى الرد على من يسميهم دعاة ورموز تحرير المرأة الذين يستهدفون إخراج المرأة من بيتها، فيحذر الخطاب من مغبة الإنجراف وراء هذه الدعاوي كما يحذر من مؤتمرات المرأة العالمية والاتفاقيات الدولية وخاصة اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة. نظرة متوجسة وأضافت: أن عمل المرأة والدعوة إلى إشراكها في الشأن العام ونيلها حقوقها السياسية؛ ينظر إليه الخطاب الدعوي بنظرة متوجسة تخشى من دس السم في الدسم، فعمل المرأة يحقق لها الاستقلال الاقتصادي الذي قد يؤدي بدوره إلى إلغاء القوامة وقلب الأدوار، كما قد يؤدي عملها إلى الاختلاط بالرجال، كما يعزف الخطاب على ثنائية الخاص والعام، فالمرأة الأولى بها والأجدى البقاء في المنزل وما يتعلق به من تفاصيل، والرجل يحلق في فضاء العام بشؤونه وقضاياه، وغالباً ما يقرن الخطاب عمل المرأة بالضرورة الاقتصادية أو الاجتماعية ويضع له الشروط والضوابط التي تسد ذرائع الفتن كما يرى الخطاب من القضايا المتفرعة من قضية المرأة. التقييم والمقارنة ولاحظت "زاهد" أنّ الخطاب الدعوي يتخذ الغرب إطار مرجعي عند التقييم والمقارنة، وهي آلية تتخذ من الهجوم وسيلة للدفاع، فإذا ذُكر تعدد الزوجات ذكر تعدد العشيقات في الغرب والفساد والتسيب الأخلاقي والانحلال الجنسي، وفي حالة الحديث عن العنف الموجه ضد المرأة المسلمة والعربية لا بد أن يستحضر الخطاب إحصائيات تدلل أنّ المجتمع الغربي ليس بريئاً من هذه الحالات بل إنه ينافس المجتمعات العربية ويزيد عليها، والسؤال الذي لابد أن يرتفع هنا هل سيسهم ذكر هذه الإحصائيات في تقليص الظلم الموضوع على كاهل المرأة المسلمة والعربية والذي يمارس باسم الدين، وهل سيساعد المرأة العربية في وضع حلول لمشاكلها الاجتماعية؟ أم أنّ استخدام هذه الآلية التبريرية يساهم في جعل المرأة تتقبل الظلم ولا تتخذ أية تدابير لإيقافه أو لتحجيمه. لباس المرأة ونوهت إلى أنّ إحدى القضايا المتفرعة من قضية المرأة هي مسألة الحجاب ولباس المرأة المسلمة وجميع ما يتعلق بمظهرها الخارجي، فهذه القضية تشغل جزءاً كبيراً من الخطاب الدعوي النسائي؛ فيحذر الخطاب المرأة المسلمة من أن تكون مطية بيد الغرب ومن الانجراف وراء المرأة الغربية ومن تقليد صرعات الموضة، كما ينادي بسد الذرائع بمنع الاختلاط والابتعاد عن مكامن الفتن ومعظم الداعيات يشددن على وجوب تغطية وجه المرأة، مشيرةً إلى أنّ الداعيات يسعين إلى محاربة بعض الظواهر المستحدثة كالاحتفال بعيد الحب، وهناك الكثير من المقالات المكتوبة للتنديد بالاحتفال بهذا العيد، وإيضاح أصله النابع من ثقافة مسيحية بحتة. اللوثات الفكرية وأضافت: كما يحارب الخطاب منكرات الأفراح والتي يعتبر أهمها وجود آلة وترية تستخدمها الفرقة التي تحيي الحفل، ولا زالت حفلات الأعراس التي تعتمد على الدف تسمى أعراساً إسلامية، مما يوحي بأنّ الأعراس الأخرى مخالفة للنهج الإسلامي، كما اهتم الخطاب سابقاً بالتحذير من الوافدات الفكرية التي من الممكن أن تتسرب إلى العقيدة وتلوثها وتدخل عليها الطرق الباطنية فتحذر من البرمجة العصبية ومن النظام الغذائي (الميكروبيوتك)، ومن علم الطاقة، وقد اهتم عدد من المجلات الدعوية بموضوع النقد المنهجي للبرمجة العصبية اللغوية من خلال دورات الفكر العقدي الوافد، والمفارقة أنّ الخطاب الوعظي اليوم يستخدم البرمجة العصبية ولا يرى حرجا في توظيفها لصالح الوعظ.