دون اعتساف للحقيقة، أو ليّ لعنقها، أقول إن ما شهده مسلسل «العاصوف» من حملة انتقادية واسعة، هو نتاج طبيعي لفكر «الصحوة» الذي جثم على صدورنا ردحًا من الزمن كالحًا، ودالتي أن سهام الانتقاد اتجهت بالكلية لنفي المظاهر الاجتماعية التي صورها المسلسل، والتي تعارضت بشكل قاطع مع الصورة «الطهرانية» الواقرة في عقلنا الجمعي، وهي لا تعدو أن تكون وهمًا ورثناه من «الصحوة»، حين كانت تعلي من خطاب «الخصوصية»، بما ينطوي عليه من إضمار لصورة المجتمع الملائكي، المبرّأ من غوائل الخطأ الآدمي، في تصوره للمجتمع السعودي كما لو كان حالة استثنائية بين أمم الأرض، فنشأنا غرباء حتى عن ماضينا، وكل من رفع صوته آنذاك بالإشارة إلى مخالفة ذلك لفطرة الله التي فطر الناس عليها، وحقيقة المجتمع السعودي في سياقه الطبيعي، سارعت إليه الزواجر بتكميم الأفواه، والرمي بالتهم الجزاف، بخطاب غليظ يرميه بالسعي نحو إشاعة الخنا والفجور والفاحشة في المجتمع حتى دون أن يشاهدوه وبالتالي فنقدهم ليس موضوعياً وإنما شخصي بحت.. رغم أنه عمل فني متكامل أجاد فيه الجميع أداء وتمثيلا وإخراجا لسلوكيات سادت ومازالت وستستمر. أطالع رؤى المنتقدين لهذا المسلسل الجميل، الذي يحمد لطاقمه أنه حرك الساكن، وزحزح مثل هذه القناعات الهشة، والموروثات البالية، ووضعنا أمام رؤية واقعية لماضٍ غير منكور، ولا ينبغي أن يكون مخجلاً نداريه عن أعين العالم، فإنما نحن بشر ممن خلق الله، ولسنا في عصمة الملائكة، وطهرانيتهم.. لنا من جميل الخلال ومحامد الصفات ما نزهو به فخرا، ولنا من الأخطاء والزلات ما نسكب عليه العبرات توبة وأسفا، فلا يزايد علينا المزايدون، فيكفي تضخيمًا للذوات في معرض الادعاء الكاذب بالنقاء المطلق، والطهر الذي لا يعرف دنسًا، فإن ذلك لم يتحقق حتى في مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام، التي ارتفعت فيها الفضيلة إلى الذروة، ومع ذلك لم تسلم من الخطأ الآدمي، ومن نزوات البشر.. حرصت أن لا أنساق وراء أحبولة الانتقاد للمسلسل من هذه الزاوية، وأن أتجنب مثل هذه الفخاخ، التي تنصب كل ما عرض عمل درامي يتناول المجتمع السعودي بالنقد، أو يتناول مظهرًا سلبيًا من مظاهره، لقناعتي أنه عمل درامي في النهاية، وليس تسجيلاً وثائقيًا، يتطلب مرجعية تاريخية منضبطة، ولكني تنازلت عن هذا الحرص، ليقيني أننا نحتاج إلى أن نتخلص من موروث «الصحوة» الفكري، وأن ننظر إلى حاضرنا بعين الواقع المكشوف، ونحاور ماضينا بعين الناقد البصير، بعيدًا عن مزالق «التجميل» لوجه الادعاء الأجوف، أو «التأثيم» لأجل النسف الماحق، فكلاهما يتساوى في مقدار الخطأ وسوء المقصد، ويفترق في الاتجاه فقط.. لقد كان حريًّا بالمنتقدين والبكائين دون سبب على ماء الفضيلة المسكوب أن يتعاملوا مع هذا المسلسل على اعتباره عملاً دراميًا بحتًا، يتكئ في جذره لفترة زمنية، وتتم محاكمته فنيًا على هذا الأساس، ليس في جوهر الحبكة الدرامية ومدى صدقيتها ومطابقتها لصورة المجتمع في العقل الجمعي، طالما أنها لم تكن توثيقًا لحدث بعينه، ولكن في استيفاء الاشتراطات الفنية المصورة لتلك الحقبة، مثل النظرة النقدية التي أشارت لمظهر الممثلات، وهن في كامل الزينة والمكياج، الذي لم تعرفه الحقبة التي تدور فيها أحداث المسلسل، بالإضافة إلى بعض البنايات المخالفة لنمط المعمار آنذاك، وغير ذلك مما يحتمله النقد الفني المقبول، أما الذهاب إلى القول بأن بعض أحداث المسلسل تخالف أخلاق المجتمع وقتذاك، فهذا قول مجاني لا قيمة له ولا وزن، ومن يصعب عليه تقبل هذه الفرضية، فليرح نفسه من عناء هذه المكابدة، وليفترض بأن المسلسل مجرد فنتازيا تاريخية، مرجعها لدى المؤلف، وتأويلها لدى المتلقي. إن خطورة مثل هذا النقد البئيس للدراما السعودية تكمن في عدم استعداد قطاع من المجتمع السعودي لمغادرة مربع أوهام «الصحوة»، وارتجال خطاب نقدي عفوي يجسّد حجم الأزمة التي كابدناها وما زلنا نكابدها إلى اليوم، وإنك لتقف حائرًا في توقع ما ينتظر الدراما السعودية مستقبلاً، وقد انفتحت أمامها الأبواب المغلقة، وهي في طريقها لاستشراف عهد جديد بعودة دور العرض السينمائي والمسرح، وتحفّز المنتجين والممثلين والمخرجين إلى الإسهام بأفلام سعودية لها حضورها وتأثيرها، فلئن كنا بهذه الريبة تجاه تقبل منتج درامي يتكئ على فترة زمنية، بمحمولها الاجتماعي الطبيعي، فإننا سنكون أشد ريبة حين تأخذ الحرية وضعها الطبيعي في درامتنا المقبلة، وتتناول مزايانا وأخطاءنا على حد سواء في منتجها الفني والدرامي، وهو عين ما ننتظره من الدراما السعودية الحقيقة، أن تكون مرآة صادقة للمجتمع، وليست حالة تزييف له، ولا سوقًا زائفًا لماضيه أو حاضره. إن الطريف في كل هذه الحملة «النقدية» الشرسة للمسلسل، أنها وضعت النجم ناصر القصبي في وجه المدفع و«تخت» التصويب، ولم تنظر إليه بوصفه مجسدًا لفكرة المؤلف وحابك السيناريو والحوار ومخرج العمل، وقد استمعت إليه في ضيافة «مجموعة إنسان»، وقد أحسن الرد فيما يتصل بالمسلسل وأحداثه، غير أن رؤيته حول «الملحد»، جانبها الصواب، لما انطوى عليه من خلط مفاهيمي، جعل فيه الملحد سالكًا درب الشك في طريق اليقين بوجود الإله، وهو ليس بذلك على الإطلاق؛ بل الصواب أن الملحد استقر إلى يقين وقناعة بعدم وجود إله؛ فألحد، والقول بأنه صاحب «عقيدة»، هي بمقياس الدين الحق؛ باطل لا مراء فيه، ولا مجال حينئذٍ إلى المفاضلة بينه وبين أوهى الناس إيمانًا بوجود الإله الأعز، ناهيك عن المؤمن بالفطرة والسجية السليمة.. تعظيم سلام لمسلسل العاصوف (ونعم المسلسل هو).