شكلت هزيمة «داعش» وإعلان العراق الانتصار عليه أوائل الشهر الجاري منعطفاً بارزاً في مسار الأزمة العراقية، ما استدعى ضرورة التعرف على موقف الحكومة من عدد من القضايا المهمة، التي ارتبطت نشأة بعضها مثل «الحشد الشعبي» وغيره من الميليشيات العسكرية بظهور «داعش» والحاجة إلى محاربته بعد سيطرته على أجزاء واسعة من أراضي العراق، وبعضها الآخر كان مؤجلاً لما بعد التخلص من التنظيم الإرهابي كصيغة نظام الحكم والموقف من الدستور في ضوء ما يجري في كردستان العراق، وما يرتبط بهذا التوجه من احتمالات التقسيم. انطلاقاً من كل ذلك بادرت «عكاظ» بطرح تساؤلات الرأي العام العراقي والعربي حول هذه القضايا على وزير الخارجية العراقي الدكتور إبراهيم الجعفري، للتعرف على موقف الحكومة منها، إذ انتقد بشدة مبدأ المحاصصة المعمول به في النظام السياسي الحالي، واصفا إياه ب«السرطان»، كما اعتبر أنه ليس في العراق ميليشيات مسلحة، مشيراً إلى أنه يحق ل«الحشد الشعبي» خوض الانتخابات لأنه جزء من القوات المسلحة التي تملك هذا الحق بموجب القانون. وطالب الجعفري المؤسسات باحتضان الكفاءات في كل التخصصات، والقبول بالتنوع الديني والمذهبي والطائفي، موضحاً أن نظام الحكم سينحو باتجاه منح مزيد من الصلاحيات للمحافظات تكريساً لمبدأ اللامركزية، بعد أن اعترف بأن الديموقراطية والفيدرالية المطبقتين في العراق لم تنجحا بدرجة مئة في المئة، وإلى تفاصيل الحوار: • عقب هزيمة «داعش» وإحباط مشروع انفصال كردستان، هل زال هاجس التقسيم عن كاهل العراق، أم أن نذره تلوح في الأفق؟ ••لا شك أن قضية التقسيم شكلت عقبة أساسية جثمت على صدر العراق، وهذه القضية أثارت هواجس العراقيين، كما أثارت هواجس الدول المجاورة ذات المكونات الكردية (تركيا وسورية وإيران)، فعدوى الفيدرالية والانفصال سرعان ما تنتقل من بلد إلى آخر، ولا نقول أننا أنهينا تماماً على هواجس التقسيم، ولكن القضية أصبحت مطمئنة في الوقت الحاضر إلى حد كبير. • في رأيكم، ما الصيغة التي تضمن وحدة العراق المقسم حالياً إدارياً ونفسياً، وتنهي تماماً خيار التقسيم في المستقبل؟ ••الصيغة تتمثل في تطبيق الدستور العراقي الحالي، وإيجاد علاقة متوازنة بين الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية في المحافظات وحكومة إقليم كردستان، والمشاركة الحقيقية في الحكومة - وهي الآن موجودة- والبرلمان، بما يسع كل فضاءات المحافظات مذهبياً ودينياً وسياسياً وقومياً بتوازن، والحفاظ على هذا التوازن وإعطاء الحقوق للآخرين، فالمواطن عندما يعيش في بلد يتنفس برئة مفتوحة ولا يختنق في قومية معينة تفرض عليه، ولا دين يفرض عليه، لا يجد ما يبرر له التمرد على هذا الوطن، فإذا شئت أن تحكم عليك أن تعدل، والعدل أساس الحكم. • وماذا نسمي هذه الصيغة التي طرحتموها؟ ••الفيدرالية، ولكني أتذكر جيدا أنه في زمن الإمام علي بن أبي طالب، كان مصطلح العراق يقصد به الكوفة والبصرة، وكان يعتمد صيغة حكم يأتي فيها بوالٍ من أهل البصرة للبصرة، ووالٍ من أهل الكوفة للكوفة، ويأخذ المال بنظر الاعتبار، وهذا هو نوع صيغة الحكم بغض النظر عن أنه كمصطلح ولد متأخراً، ولكن مضمونه واضح، وفيدرالية تعني «TRUST» «ثقة»، بمعنى أن البلد الذي يتعرض للاهتزاز بسب تعدد مكوناته تأتي الفيدرالية «TRUST» فتعيد الثقة. أما الفيدرالية التي مورست فمقلقة، ولا أجد فيدرالية في العالم مثل ما ذكرت. أمريكا خمسين ولاية وخمسين حكومة محلية وخمسين دستورا محليا وخمسين علما وخمسين رئيس ولاية، ولكن العاصمة واشنطن والوزارة تسير فيها، ويتصدى شخص واحد والبقية يتفاعلون معه، ولا أجد فيدرالية في العالم تشكل حكومة ثانية إلى جانب حكومة مركزية وتنافس الوزراء السياديين. •في مرحلة ما بعد «داعش»، هل يتوقع إلغاء مبدأ المحاصصة وسن دستور جديد يدشن مرحلة جديدة للدولة العراقية تقوم على إعلاء مبدأ المواطنة وعقد اجتماعي جديد، أم أن معطيات الواقع العراقي لا تسمح بذلك؟ ••من المؤكد أننا اندفعنا أكثر وأكثر باتجاه وحدة الصف وجمع الكلمة وتحقيق نظام يُرسى على قاعدة الديموقراطية من جانب والفيدرالية من الجانب الآخر، ونحن لا ندعي اليوم أن النظام في العراق ديموقراطي مئة في المئة ولا حتى فيدرالي، ولكننا مارسنا الفيدرالية. • إذن هل يتوقع إلغاء مبدأ المحاصصة وسن دستور جديد أو تعديله؟ ••المحاصصة أسوأ شيء، وهي السرطان الذي أثر في البلد، ومبدأ المحاصصة يجب أن يلغى غير مأسوف عليه وإلى غير رجعة، يجب الانفتاح على النماذج الممتازة في المجتمع واحتضانها، وهذه النماذج في حد ذاتها ستؤدي إلى التنوع، أما الاستغراق في التنوع - سني وشيعي ومسيحي ومسلم وإيزيدي- لا يؤدي إلى التنوع. فأنا أؤمن بأن تقديم النماذج الكفوءة في حد ذاته سينشر ظل التنوع، لماذا؟ لأن النماذج الممتازة ليست محصورة في طائفة واحدة أو دين واحد ولا منطقة واحدة، والتركيز على هذه النماذج سيؤدي إلى التنوع المتوازن. أما بالنسبة للدستور، فالدستور دائماً ما بين أن يكتب وبين أن ينفتح على المستقبل يمر بمراحل متعددة، ويتطور مع الزمن، فالدستور الأمريكي كتب سنة 1789 وأضيف عليه 25 تعديلاً حتى سنة 1975، فمثلاً المرأة الأمريكية كانت ممنوعة من التصويت وفي سنة 1916 سمح لها بالتصويت، فبمرور الزمن يتعدل الدستور لاستيعاب التطورات، والدستور ليس مقدساً، إذ إنه يولد من عقل ساسة يمثلون شعبهم، وبما أن الإنسان متطور اجتماعياً فإن الدساتير تتطور تبعاً لذلك، وفي هذا الإطار فإن الدستور العراقي ليس مقدساً فيما عدا بعض البنود التي تعتبر ثابتة ثبات المقدسات مثل النص على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، ومثل منح الحريات للمواطنين، والتعامل على أساس العدالة الاجتماعية، وفيما عدا ذلك فإن مواد الدستور وعددها 114 مادة قابلة للتطور نحو الأفضل. • ماذا بشأن نظام الحكم؟ ••سيكون لامركزياً دون شك، فخير لنظام الحكم أن ينفتح على المحافظات والأقاليم ويمنحها الصلاحيات بما لا يخل بالسيادة، خصوصا الوزارات السيادية لأنها تهم كافة أبناء البلد، وفيما عدا ذلك يمنح للمحافظين مباشرة من خلال منحهم سلطات لامركزية على ألا تؤدي إلى تجاذب بين المحافظات والأقاليم وإنما تحقق نوعا من التقارب. • البعض من العراقيين يرى أن مرحلة ما بعد «داعش» ستعمق الانقسام الديني والمذهبي والنفسي وستكون صعبة للغاية، وحجتهم في ذلك أن القوى السياسية ستظل محافظة على القوات العسكرية التابعة لها، وهي ميليشيات مدعومة من جهات خارجية، وبقاء هذا الوضع سيفاقم حال التنازع السياسي، فما رأيكم؟ ••أولاً الحالة العسكرية في العراق ليست ميليشيات، فهناك فرق بين مفهوم الميليشيات ومفهوم المقاومة. البلد عندما يتعرض للاحتلال يقاوم، وعندما يتعرض للإرهاب يقاوم، والعراق لا توجد فيه ميليشيات، والآن الكيانات التي تسمى بالميليشيات كالحشد الشعبي جاء من رحم انتخابات وأقره البرلمان وصوت عليه، وأقرت له الساحة بأنه يمتلك قدرة على التضحية بعيداً عن قضايا كسب المصالح وما شابه ذلك. • هل تعتقد أن هذه الكيانات لن تؤدي إلى تنازع سياسي؟ ••متى يحدث التنازع السياسي؟ يحدث عندما تكون الثقافة ضيقة تدفع الإنسان إلى الغرق في النرجسيات، أما الثقافة الوطنية فتدفع المواطن إلى تقديم الأحسن منه إذا كان من مذهب آخر وقومية أخرى ومنطقة أخرى، فالعراق ينفتح على حالة جديدة ويبحث عن الأكفاء، والنموذج الذي يتحلى بالكفاءة يعمم الفائدة ويزيد من عطائه للجميع وليس عندنا تكالب إلا أن من باب المحاصصة، واعتقادي أن المحاصصة حاولت أن تنخر بالعراق. • لكن، لنواجه الحقائق، هناك 4 كيانات مسلحة في العراق الآن هي: الجيش العراقي الرسمي، والبشمركة، والحشد الشعبي، والحشد العشائري، كيف ستفرض الدولة العراقية سلطتها وتحقق مبدأ السيادة مع وجود هذه الكيانات غير المتوافقة؟ ••الدولة العراقية وهذه الكيانات ليست ميليشيات، وهي اليوم مقررة في الدستور، بمعنى أنها كيانات عسكرية تستظل بالدستور العراقي والبرلمان العراقي، وتأتمر بإمرة القائد العام للقوات المسلحة وهو رئيس الوزراء. ومن المعلوم أن رئيس الوزراء لديه مهمتان هما: رئاسة مجلس الوزراء وقيادة القوات المسلحة، ولا تفرض أي قوى سياسية على سلطة رئيس الوزراء. • ولكن هذه كيانات عسكرية وليست قوى سياسية؟ ••نفس الشيء، فالآن حركة أي قوة عسكرية داخل العراق تجري تحت إمرة رئيس الوزراء باعتباره القائد العام للقوات المسلحة. • في سياق التطرق إلى الكيانات العسكرية، يثير «الحشد الشعبي» أكثر من غيره الجدل على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، فهناك تخوفات محلية من نفوذ «الحشد الشعبي» وارتباطاته تحديدا بطهران، وكذلك إقليمياً بالنسبة لدول الجوار، وعالمياً، إذ طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل أيام بتفكيكه، والسؤال ما مصير «الحشد الشعبي» الآن خصوصاً أن مبررات تأسيسه ارتبطت بالحرب على «داعش» وقد هزم التنظيم الإرهابي بالفعل؟ ••إلى الأمس القريب والقريب جداً لم تزل بعض فلول «داعش» جاثمة على صدر بعض المدن، وكل دول العالم عندما تمر بظروف أمن استثنائية تشكل جيوشا إضافية للدعم، ولك أن تسمها ما شئت، والعراق ليس بدعة من القوم، فالمحافظات كادت تسقط كلها، محافظة وراء محافظة فماذا نعمل؟ «داعش» سيطر على محافظة الأنبار ومحافظة صلاح الدين ومحافظة الموصل، وكادت تسقط كافة المدن، وبناء على ذلك نادت المرجعيات بضرورة الدفاع بمفهوم «الجهاد الكفائي» وتطوع هؤلاء جميعاً وعملوا تحت لواء القوات المسحلة العراقية، وحققوا نصراً كبيراً، ودونهم كان سيضيع العراق وستضيع المحافظات، وهؤلاء لم يأتوا من خارج الحدود وإنما أبناء العراق، وفي الوقت نفسه قدموا تضحيات وتعاملوا بطريقة رائعة جداً. • إذن في إجابة مباشرة على السؤال ما مصير «الحشد الشعبي» بعد هزيمة «داعش»، هل سيبقى وهل سيخوض الانتخابات؟ ••القانون العراقي سيطبق على مسلحي «الحشد الشعبي» وإذا كان لهم حقوق سيمارسونها، وإذا لم يكن لهم لن يمارسوها، والانتخاب حق للقوات المسلحة العراقية وهم جزء منها، وإذا امتنعوا عن الممارسة فلن يجبرهم أحد، والدستور العراقي لم يحرم على أبناء القوات المسحلة الدخول في الانتخابات. • يقودنا ما سبق إلى التساؤل عن الصورة التي ستكون عليها المنظومة الأمنية العراقية بعد «داعش» للحفاظ على أمن البلد والحفاظ على الأمن الإقليمي للمنطقة؟ •• أولاً، الأحكام أتاحت الفرصة لكل القوى السياسية، أما الآن فسيبقى التنسيق مع البرلمان ومعالجة مشاكل الشباب، وإشاعة ثقافة المصالحة الوطنية، وبث هذه الروح في صفوف المختلفين في أن لا تتحول النزاعات إلى عمليات عسكرة.