كتب عنه صديقه الشاعر العراقي وديع شامخ في صحيفة «العربية» الإلكترونية العراقية في 31/1/2015 قائلا إن الشاعر البريطاني توماس إليوت كان يشم رائحة الموت في شهر نيسان، وإن بدر شاكر السياب كان يشم الموت كل يوم، لكن شاعرنا اختاره الموت في شهر شباط من «عام الخوف» في إشارة إلى عام 2002 حينما كان العراق شعبا ونظاما في حالة هلع من حرب قريبة تشنها الولاياتالمتحدة. ففي 27 فبراير من تلك السنة قُتل أبوماجد داخل منزله الواقع في حي الجزائر بمحلة العباسية في وسط مدينة البصرة، ثم دفن بعد يومين إلى جوار صديقه الشاعر محمد علي الإسماعيل في مقبرة الحسن البصري بالزبير، حيث مسقط رأسه ومساكن أهله ومرابع طفولته. ولاحقا، بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 تم إطلاق اسمه على مدرسة حكومية في منطقة حي الحسين «الحيانية» بالبصرة، كما أطلق اسمه على مركز حكومي للشباب والرياضة في قضاء الزبير. وفي عام 2009 أعلنت بلدية محافظة ميسان نيتها إطلاق اسمه على أحد الشوارع الرئيسية في مدينة العمارة، وذلك من باب التكريم والتخليد ورد الاعتبار. وأبوماجد ليس إلا كنية للشاعر محمود داوود سليمان البريكان المولود في عام 1929 بقضاء الزبير لأبوين ترجع أصولهما إلى نجد بوسط الجزيرة العربية. فوالده هو تاجر القماش المعروف في البصرةوالكويت الشيخ داوود من عائلة البريكان المتحضرة والمعروفة ولها امتدادات في السعودية والكويت. أما جده لأمه فهو أحمد الخال الذي كانت له مكتبة منزلية ضخمة محتوية على مجلات ودوريات وكتب ومراجع مهمة استفاد منها حفيده أبوماجد في إثراء معارفه العامة أيما استفادة، مثلما استفاد من تردده على مكتبة الزبير الأهلية. والمعروف أن عائلات كثيرة هاجرت في القرنين الثامن والتاسع عشر من نجد إلى الزبير، وكانت عائلة البريكان (أو البريجان بلهجة أهل الزبير والكويت) من ضمن القائمة، لكن الكثيرين منهم ظلوا في الزبير ولم يتركوها إلى السعودية والكويت، بل إن كبيرها الشيخ داوود كافح من أجل افتتاح مدرسة لتعليم فتيات الزبير، ونجح في مسعاه لكنه دفع ثمن ذلك من حياته حينما اعتدت عليه جماعة من المتعصبين وهو جالس في مقهى المدينة. أما ابنه «أبوماجد» فقد عرف منذ طفولته بالهدوء والانعزال، لكن ذلك كان مقترنا بأناقة في المظهر، ومنطق في الحديث، وجمال في التعبير، وشاعرية في الإحساس، وتميز في الحضور، واستنارة في الفكر. ويتفق الكثيرون من أصدقائه ومعاصريه على أن انطوائيته وانغلاقه على محيطه المحدود، إضافة إلى عدم اهتمامه كثيرا بنشر شعره، تسبب في عدم اكتسابه للشهرة التي اكتسبها زملاؤه من رواد الشعر الحديث في العراق، مثل بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبدالوهاب البياتي، بل وبقائه مجهولا أو شبه مجهول داخل العراق وفي البلاد العربية. فقد نسب إلى السياب قوله: «محمود البريكان شاعر عظيم، لكنه مغمور بسبب عزوفه عن النشر». على أنه رغم كل هذا يعتبر البريكان «رائدا وشاعرا وملهما، ممن كرسوا حياتهم لقصيدة النثر وذادوا عنها مصرين عليها، حتى صار لقصيدة النثر كيان خاص بها» طبقا للشاعر أحمد خلف في صحيفة الشرق الأوسط (16/3/2002)، بل إن الشاعر حسين السلطاني تطرق وفقا للمصدر السابق إلى «دوره الريادي في تأسيس الخطاب الشعري الريادي الذي اصطلح على تسميته «الشعر الحر»، وأنه عمل على إعادة رسم الخارطة الكتابية منطلقا من منطلقات التجديد التي اتخذت من المعاصرة وخصوصية اللغة والبناء الفني مناخا لترعرع الخطاب الشعري». قلنا إن ميلاد شاعرنا كان في الزبير، حيث كان والده الثري يملك منزلا فخما إلى جانب منزل فخم آخر في البصرة، وكان لشاعرنا ستة إخوة، ترتيبه الثاني بينهم، بعد الأخت الكبرى خاتون التي كانت أول معلمة من الزبير. أما دراسته الأولية فلا توجد عنها تفاصيل كثيرة سوى أنه درس في مدرسة بمنطقة الزهيرية التي ترعرع فيها، وكان فيها من الطلبة النابغين. التحق البريكان بكلية الحقوق في جامعة بغداد، لكنه انقطع عن دراسته في عام 1949 بسبب وفاة والده الذي يُقال إنه أصيب بنكسة مالية في هذه الفترة، وهو ما دفع شاعرنا للعمل كمدرس لمدة ثلاث سنوات في مدرسة النجاة الأهلية الابتدائية بالزبير، وأعقبها بالذهاب إلى الكويت في عام 1953 وهو في سن الثالثة والعشرين. في الكويت عاش البريكان خمس سنوات ونصف السنة عمل خلالها مدرسا في مدرسة قتيبة الابتدائية للبنين. وفي عام 1959 عاد إلى بغداد ليكمل فيها تعليمه الجامعي. بعد تخرجه في كلية الحقوق في عام 1961 قرر البريكان لسبب ما ألا يشتغل في المحاماة، مفضلا عليها العمل في التدريس، فبقي في بغداد حتى أواخر العام 1967 يزاول التدريس في مدارسها، قبل أن يقرر الذهاب إلى البصرة للاستقرار والعمل كمدرس للغة العربية بمعهد إعداد المعلمين، وظل كذلك إلى أن قُتل. تزوج البريكان أولا من ابنة عمه، وكانت عاقرا، فعاش معها فترة من الجفاف العاطفي. ثم تزوج في سن الخامسة والخمسين من الشاعرة «عدالة العيداني» التي كانت تردد أنها تمنت الزواج بالبريكان وتحقق لها ذلك. وكان من نتائج زيجته الثانية، التي انتهت بالطلاق بسبب مشكلات عائلية، أن رزق بولدين هما: ماجد المولود في 1984، وخالد المولود في 1985. الغموض لازم حياته وصاحب رحيله تحدثنا في بداية هذه المادة عن مقتل البريكان في حادثة اكتنفها الغموض كغموض الشاعر نفسه. دعنا نسمع عن هذه الحادثة من صديقه القاص عبدالصمد حسن الذي نسبت إليه صحيفة الشرق الأوسط (16/3/2002) أنه ذهب إلى منزل البريكان فوجد الباب مشرعا من الخارج، فدلف إلى غرفته، لكنه وجد بابها موصدا بقوة، فتوجه إلى بيت الشاعر البصراوي كاظم الحجاج طالبا المساعدة، فقاما معا بكسر الباب «ليجدا البريكان طريح الموت تحت نصل سكين». وفي السياق نفسه كتب الشاعر العراقي هاشم شفيق في صحيفة الحياة (2/4/2015) أن صبيا يمت لشاعرنا بصلة قرابة من ناحية زوجته دهم منزله وقضى عليه من أجل سرقة بضع دريهمات قليلة كان يعتاش منها. غير أن ما قاله شفيق بعد ذلك يوحي بأن هذه القصة مشكوك في صحتها، وأن أبا ماجد أو «الشاعر القتيل» دفع حياته ثمنا لمواقفه السياسية تجاه النظام العراقي السابق، إذ قال: «ولا أعرف لماذا كلمة الشاعر القتيل تذكرني، أو تحيلني مباشرة إلى الإسباني العظيم فريدريكو غارسيا لوركا، ذلك الشاعر الذي ذهب ضحية شعره وموقفه الإنساني من فاشية الجنرال فرانكو وميليشياته الدموية التي فتكت بالشعب الإسباني». والمعروف أن البريكان رفض أن يكتب قصائد التمجيد والمديح في صدام حسين ونظامه، متجنبا بإباء ما كانت تفعله قافلة من شعراء العراق من تدبيج القصائد والوقوف على أبواب وزارة الثقافة طلبا للمكافأة أو الاشتراك في مهرجان شعري خارجي. وقد برر هاشم شفيق (مصدر سابق) هذا المنحنى لدى الشاعر بقوله: «كان عزيز النفس ومن المتأملين الزاهدين عن متاع الدنيا، بل زاهداً حتى في عطاء الشعر. فلم يكن مهذاراً، غزير الإنتاج، إنما كان الشاعر سياسيَّ نفسه، يساريَّ روحه وعمقه الداخلي، منحازاً من دون شك إلى الأفق الطبقي من غير أن يتحزّب أو يقع أسير الدوغمائية، تلك التي نادى بها بعضهم». وأضاف واصفا إياه بعد لقائه الوحيد به في عام 1976 بمنزله الصغير المترع بالظلال بالبصرة: «كائن شاعري هادئ، ضامر البنية، بنظارات مظللة، تشي بطريقة حياته المنعزلة، البعيدة من صخب الدنيا، كأنها حياة لمؤلف موسيقي، أو حياة فيلسوف متأمل، حادب على الرؤى، أو كاهن مترهبن قابع في صومعته، أو لكأنه صوفي متنسك في يده نول من الأحلام، نول يدور في خَلدِه ليصنع عبره عالمه الحالم. شربنا الشاي عنده، من قوري خزفي أزرق، مع أقداح صغيرة مذهّبة، ذات صحون خزفية محزّزة بأقواس أرجوانية نُقِشت على أرضية بيضاء بلورية، وبجانب الشاي كعك وبقصمات». عزوفه عن النشر للابتعاد عن الأضواء زمن صدام العديد من زملائه يجزمون أن سبب عزوفه عن النشر كان رغبته في الابتعاد عن الأضواء كي لا يطلب منه النظام العراقي السابق والأنظمة التي قبله ما هو ضد قناعاته، بدليل أنه ظل ينشر إبداعاته في الصحف والمجلات منذ نهايات الأربعينات وحتى قيام ثورة تموز 1958، التي توقف بعدها عن النشر قبل أن يعاود بشكل متقطع في عقد الستينات من القرن العشرين زمن الرئيس المرحوم عبدالرحمن عارف الذي عرف العراق والعراقيون في عهده بعض الاستقرار والأمان. كان بالإمكان أن يظل البريكان مجهولا للكثيرين لولا أن أحد أصدقائه القريبين والمشابهين له في غموضه وغرائبه وعمله بالتدريس وهو الشاعر والناقد عبدالرحمن الطهمازي أصدر عنه في عام 1989 من خلال دار الآداب كتاب «مختارات من محمود البريكان»، ثم نشرت له مجلة الأقلام العراقية في عام 1993 ملفا خاصا لقصائده من إعداد الشاعرين رياض إبراهيم وحسن ناظم. وتلا ذلك صدور كتاب «الإبلاغ الشعري المحكم: قراءة في شعر محمود البريكان» للباحث فهد محسن فرحان، الصادر في سنة 2001 عن دار الشؤون الثقافية العامة. وطبقا لما ورد في «هكذا تكلم محمود البريكان» (مصدر سابق) فإن حادثة قتله البشعة كانت دافعا لظهور المزيد من المؤلفات عنه مثل: «متاهة الفراشة» لباسم المرعبي (منشورات الجمل 2003)، «محمود البريكان: قصائد مختارة» من إعداد حميد الكعبي (دار المأمون 2005)، «كاتم أصوات الكلمات» لعبدالرضا علي (دار شرق غرب 2009)، «الشاعر العراقي النجدي الكبير محمود البريكان» لأسامة الشحماني (الدار العربية للموسوعات 2004)، رسالة جامعية عنه بعنوان «الطرق على آنية الصمت» لأسامة الشحماني (منشورات بابل 2006)، «محمود البريكان بين فلسفة الصمت وصمت الفلسفة» للناقد علي حسين الجابري (دار بيت الحكمة 2008). إلى ما سبق هناك العديد من الدراسات والشهادات المنشورة عنه مثل: «مخططات لقراءة محمود البريكان» لحيدر سعيد، «البريكان احتفاء بالإنسان وأشيائه الزائلة» لفوزي كريم، «شعر البريكان: هواجس انتظار المصير» لسعيد الغانمي، «في الطريق إلى البريكان» لعلي حاكم صالح، «دوائر سوداء على بحيرة بيضاء» لناظم عودة، «شعرية العابث» لحسن ناظم، «محمود البريكان يظل بيننا» لسعدي يوسف، «نصل فوق الماء» لمحمد خضير، «الصوت الناصع» لعبدالكريم كاصد، «الشاعر الطعين في البرية» لطالب عبدالعزيز، «لماذا يدفعنا غائب غامض إلى تذكره» لعلي عبدالأمير عجام، «موت حارس الفنا» لطارق حربي، «سيناريو مقتل البريكان» لجمال حافظ واعي، «آخر معتزلة البصرة» لأسامة الشحماني، و«محمود البريكان واللصوص في البصرة» لسركون بولص. الذين تفحصوا قصائده القصيرة والطويلة قالوا إنها تمايزت بين صيغة النشيد والملحمة، في أنسنة الأشياء، وأنها تزينت بعناوين جاذبة وغريبة مثل: أسطورة السائر في نومه، أغنية حب من معقل المنسيين، عندما يصبح عالمنا حكاية، رحلة الدقائق الخمس، البدوي الذي لم ير وجهه، الرقص في المدافن، أرض العبيد، المجاعة الصامتة، إضافة إلى قصيدة «حارس الفنار» التي شبهها بعض النقاد بقصيدة «أنشودة المطر» للسياب، وشبهها البعض الآخر بقصيدة «هذا هو اسمي» لأدونيس. ولعل ما لا يعرفه الكثيرون عن البريكان أنه لم يكن شاعرا فحسب وإنما كان أيضا صاحب علاقة وطيدة بالموسيقى، لاسيما الكلاسيكية منها. فقد كان يستمع إلى الوصلات الموسيقية بشكل دائم دون ملل، وكانت لديه مكتبة صوتية جيدة، بل ترك وراءه مخطوطة كتاب في النقد الموسيقي. إلى ذلك يخبرنا الشاعر والمترجم العراقي صلاح نيازي في دراسة منشورة له في مجلة نزوى العمانية (1/1/2010) أن البريكان كان خطاطا ورساما، ينسخ من كبار الخطاطين، ويقلد أو يعيد رسم أشهر اللوحات العالمية الأجنبية. كما يخبرنا أن البريكان كان فيلسوفا شديد الإعجاب بالشاعر والفيلسوف الهندي طاغور، إلى جانب مجموعة من شعراء الغرب مثل: ريلكة، إليوت، لوركا، بابلو نيرودا، الأمر الذي يشير إلى أنه كان مطلعا على الثقافة الأجنبية ومتواصلا معها. ونختتم بعرض نموذج من شعر البريكان، وتحديدا من قصيدته المسماة ب«البدوي الذي لم ير وجهه»:لعلك يوما سمعت عن البدوي العجيب الذي كتب الله ألا يموت وألا يرى وجهه أحد وجهه الأول المستدير البريء الذي غضنته المهالك وافترسته الحروب وخطت عليه المآسي علاماتها نمت طبقات الزمان على جلده. فهو لا يتذكر صورته صورة البدء مستغربا في مرايا المياه ملامحه الغامضة * استاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين