بيت الشعر العراقي يتميز عن كل بيوت الشعر العربية، بخصيصة التفرد بالمكانة بين التجمعات الثقافية في بلده، وبينها اتحاد الأدباء، فهو يبدو صوت المجموعة الشابة الأكثر فاعلية في ثقافة العراق في الداخل. فانت لا تجد للشعراء تلك السطوة والحضور الذين يطغيان على كل الفعاليات في البلدان العربية، ولكنك في العراق لا تكاد تسأل عابراً في شارع الأدب عن هويته، إلا وأخرج من جيبه ديوانا، لذا لن تجد منافساً للشعراء في العراق بين المشتغلين في ميادين أخرى، عدا محمد خضير بالطبع، حتى إن كثيرا من النقاد او المسرحيين والرسامين، هم في الأصل شعراء وينتسبون إلى هذا البيت على نحو رمزي، أو على أساس هويتهم المزدوجة. بيت الشعر العراقي الذي تأسس هذه السنة أصدر مجلته "بيت" وهي حقاً بمواداها المنوعة، تضع سكيتشات أولية لتضاريس العراق الثقافي. تتصدر العدد كلمة أدونيس في ما يشبه المباركة للمشروع والتحية لشعراء العراق. "تأتي هذه المجلة في زمن اضطراب المعنى، كأنه صورة للضياع، أو نوع من الغياب" هكذا يقول شاعر االحداثة العربية، ويضع شروطه لنجاح المشروع، وفي مقدمتها الارتفاع باللغة من مجرد أداة أو آلة للنقل والتبليغ والتبشير، بالهم الأيديولوجي، السياسي والفكري، "إلى انخراط نمائي في الوجود، تساؤلا واستبصارا وكشفاًُ" ومشكلة الشعر العربي اليوم، هي من هذه الشرفة، مشكلة المعنى" مشكلة اللغة العربية كما يؤكد أدونيس، ليست لغوية، بحصر المعنى، بل هي فكرية، عقلية". اما كلمة رئيس التحرير أحمد عبدالحسين، فهي شأنها شأن أكثر المساهمات تتواشج مع واقع عراقي مهموم بما يجري على الأرض، وفي ما يشبه التسليم بحقيقة لا تقبل الدحض رغم أن الكاتب لا يبدو على قبول بها، يذهب إلى القول "الشعر يوفر لنا خطاباً لا يجرح نرجسية تصورنا عن هوية صمديّة، ولا يضطرنا إلى مفارقة بيت الذات المتوهم لمخاطبة آخر، لهذا نحن أمة شاعرة". ويؤرخ رئيس التحرير لحظة التقاء الشعر العربي مع الغرب بزمن أدونيس وأنسي الحاج، فشعرهم كما يرى يطرح الأسئلة، أسئلة الشكل الشعري كما يبدو، مهملا ما أتى به رواد الشعر الحر. وعلى هذا الاعتبار،يرى أن الشكل الشعري ليس سؤالا هامشيا، والجواب عنه مفترق طرق "العمود عُرفٌ وتخلّق شعريّ، وهو إذ يجيء فإنه يأتي معه بحزمة شروط أهونها التذكير بما قيل على ذات الوزن والقافية". ومع أن العراق كان أول المتمردين على القافية، غير أن المعركة بين شعر القريض والشعر الحديث، وخاصة قصيدة النثر، عادت اليوم، كما يلوح في خطاب الشعراء. وليس بغير دلالة أن يضع العدد على صفحاته الأولى نصين لشاعرين مخضرمين شهدا الخمسينات والستينات ويكتبان اليوم قصيدة النثر. صلاح نيازي في مرثيته لمحمود البريكان يخاطب الشعراء :"إذن هيا.. ما الذي ننتظر؟ لنأخذ "بلاطات الأرض التي فاض عليها دم محمود/ نوزعها على متاحف العالم/ هذا العراق" ويكتب صادق الصايغ عن سركون بولص "إلقِ يا أمير الشعر والخسائر/ بحمولاتك إلى خارج الفضاء/ واستمتع برؤيتها تطير/ في عمقه الواسع الجميل". ولأن زمن الشعر اليوم يصاحب زمن الموت في العراق، نرى نبرة المراثي تتغلب على ما عداها في الشعر المنشور، فكريم عبد يضع عنوانا لقصيدته "الموت رمحٌ طويل تكسّر في قلوبنا" وهي مرثية لجنود "بدأ العشب ينبت على صدور الجنود/ العشب الخائف من وجوههم/ وهي تضحك من وعورة الطريق". يكتب حميد قاسم موحدا بين الشهوة والنهاية "كلما كانت الطبيعة مهملة/ وتغفو كثيرا../ ليسقط رأسها على صدرها، مثل كلب عجوز/ أسود ووحيد..". وسنجد في مقدمة انطولوجيا الشعر العراقي لشوقي عبدالامير، ما يفسر ولع العراقيين بالمراثي. عنوان المقدمة "القيثارة والقربان" ويعود فيها برحلة الشعر إلى حضارة ما بين النهرين، حيث يتجه الشاعر المجهول بخطواته عموديا نحو المقبرة، موقعاً إنشاده على القيثارة، ويورد نماذج تبدو أقرب إلى القصيدة العالمية المعاصرة، وبينها نص المنفى الذي ترجمه طه باقر " نفتنا الآلهة/ غرباء حتى مع أنفسنا/ نجوسُ أزمنة الماضي والآتي/ دون قيثارات/ هكذا كان حكمنا الأبديّ/ ورحلة بحارة يعشقون النبيذ". قصيدتان للشاعرة سهام جبار والروائية دنى غالي، الأولى تقتفي أثراً ضائعا للوقت "على ذكرى ورقة أسٍ رابحة/ أجادل خساراتي/ أنزع قبعات الحداد" والثانية تقتفي أثر الحواس في صوت الحب المجروح "ليتك تتأخر / كصمت بلا حيلة / أو تظهر قامة خلف زجاج معتم". لعل بمقدورنا أن نحسب قصيدة علي النجدي تورية لغربة الشاعر في المكان العراقي "أكره شرطي المرور/ محنطاً في ظهيرة تموز/ بصفارة عمياء وإشارة ميتة/ أكره مركبات الدفع الرباعي تجتاز الإشارة/ تشق حشد المتسولين وتوزع للسابلة زعيقها". قدم هذا العدد الناقد حاتم الصكر والرسام نوري الراوي في مجاهدات مع الشعر، وهو اكتشاف ربما جاء متأخرا، ولكنه ليس غريبا على بلد مثل العراق. مقابلتان مع هاشم شفيق وعبدالكريم كاصد، احتلتا صفحات كثيرة من العدد، الأولى يتحدث فيها شفيق عن دور الشاعر الرائي والسابر والمستكشف، وأجراها الشاعر والمترجم سهيل نجم، والمقابلة الثانية لا يرد اسم المحاور فيها، ويضع كاصد حياته في البصرة وتصوراته عن الشعر في سياق يتقاطع ويتواشج. هناك كثير من المواضيع التي تحتويها المجلة: مشاهدات وانطباعات وترجمات ودراسات ومراجعات سريعة للدواوين، وهي تتفاوت من حيث اللغة ومستوى العرض. وعدا مساهمة أدونيس، يبقى العدد خاليا من مساهمة عربية، مع ان المجلة أعلنت عن نفسها في احتفالية ببيروت على مسرح بابل الذي يديره جواد الأسدي.