يضع أحد الباحثين لكتاب له عن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب عنواناً لافتاً: «السيّاب شاعر الوجع»، ويبدو أنه أراد بهذا العنوان أن يلخّص سيرة الشاعر وشعره معا. فكلاهما ينضح بالأوجاع والآلام التي ساهمت في انضاج شاعرية خصبة انتقل الكثير مما أبدعته إلى ألسنة الخلق، وفيه تصوير صادق لما عاناه الشاعر ولما عاناه وطنه أيضاً: وكل عام حين يعشب الثرى لجوع ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع ويضيف: اليتم إلى الفقر في قصيدة أخرى عنوانها «ليلة في العراق»: آه يا أمي! عرفتُ الجوع والآلام والرعبا ولم أعرف من الدنيا سوى أيام أعياد فتحتُ العين فيها من رقادي لم أجد ثوباً جديداً، أو نقوداً لامعاتٍ تملأ الجيبا لأني أبي فقيراً كان.. وقد كتب مرة إلى يوسف الخال صاحب مجلة شعر رسالة يقول فيها: «إنه مفلس، مفلس تماماً»، ويطلب في الرسالة أن يدبر له كتاباً يترجمه، وكتب مرة إلى توفيق صايغ صاحب مجلة «حوار» رسالة يقول له فيها إنه في حاجة ماسة إلى مئة دينار.. كما كتب إلى مدير الموانئ العراقية اللواء الركن مزهر الشادي صرخة يأس وبؤس: «بائس أنا يا سيدي، شقي غاية الشقاء، أنا محتاج للمساعدة يا سيدي». وهناك من يُرجع تعاونه مع مجلة شعر، وكانت مجلة مشبوهاً بنظر اليساريين والعروبيين، إلى ما كان يأمله من مساعدة مالية تتيح له تحسين أوضاعه المادية، وبخاصة لشراء أدوية ضرورية لمرض مجهول فتك به ولم يكن قابلاً للشفاء في تلك المرحلة، وقد انتهى به إلى الموت، ولما كان ارتباط هذا العوز بالمرض العضال الذي أخذ يتفاقم عنده وثيقاً، فإن تفاعلها لديه كان يضعه في مواجهة مباشرة مع الموت الذي تصاعدت قوة حضوره باطراد مع اشتداد المرض واليأس من الشفاء. ويتضح ذلك من مراجعة قصائده: «اسمعه يبكي»، «يقولون تحيا»، و«نسيم من القبر»، و«المعول الحجري». في المقابل يضحى التلهف على الحب والحنان تهالكاً متعاظماً وأرعن على امرأة مستحيلة، بقدر ما كان الشاعر متنامي العجز، وبقدر ما كانت المرأة قصية الحضور حين لا تكون غائبة في الموت أو مندثرة في الماضي البعيد، وكان دور العشق الذي كان يغذيه وحده، وينسج بمفرده أساطيره يقوم على جبه العجز والموت وتأكيد الحيوية والحياة. ولا شك أن آلامه وأوجاعه عذّت شاعريته وجعلته ينطق بجملة من الأناشيد الحزينة التي تشبه المراثي الخالدة في بعض جوانبها، ومنها: يئستُ من الشقاء، يئست منه وهدّني التعب ستبقى حين يبلى كلُّ وجهي، كل أضلاعي وتأكل قلبي، الديدان، تشربه إلى القاع قصائد.. أو: نسيم الليل كالآهات من جيكور يأتيني فيبكيني بما نفثته أمي فيه من وجد وأشواق ومع أن السياب عالج موضوعات كثيرة في شعره، قسم كبير منه سياسي، إلا أن المدقق في نتاجه يجد أن الألم والوجع ايقاعان ثابتان في شعره. فمظعم هذا الشعر يضج بالشكوى والأنين، ومعظم أبطال قصائده ضحايا، وجلهم لا تظهر إيجابية انجازاتهم إلا بعد الموت، أو هي مؤجلة إلى حين البعث المفترض. ولعل الأهم في المكونات المميزة في شعريته والتي كانت وراء وصف الناقد المصري لويس عوض له بأنه «أمير شعراء زمانه»، تتمثل في الايقاع الشعري الرفيع المستوى الذي يعمر قصائده ويجسد بقوة حضور عبقريته وموهبته الفذة، فقصائده ذات وقع موسيقي يجد مرتكزاته في الأوزان الخليلية أو التفعيلية التي بقي وفياً لها ملتزماً أصولها، وفي حرصه على القافية وإيلائها الاهتمام الكبير لأداء دورها في الوحدات الايقاعية التي تجيء فيها، وفي الشكل العام للقصيدة. ويمكن التحقق من ذلك في الرجوع إلى «أنشودة المطر»، و«مدينة بلا مطر»، و«تموز جيكور»، إذ يتجلى عبقرية السياب في استعمال التفاعيل بشكل يفصح حيوية ونضارة على غنى وتنوع كبيرين. وهي مهارة أتاحت له الانغماس في مشروع تجديد بنية القصيدة العربية، وكرّسته رائداً فيه. وقد ظهرت باكراً في شعره من خلال استعماله المتقن للصيغ التقليدية من أوزان تقليدية أو موشحات. وبرزت من ثم متألفة في استخدامه المرهف للتفعيلة في ذرى إبداعاته الناضجة. وقد بدأ الشاعر حريصاً على تأكيدها من خلال انصرافه إلى نظم قصائد مطولات تضمن بعضها المئات من الأبيات، كما هو الحال في «فجر السلام»، و«حفار القبور»، و«المومس العمياء»، و«الأسلحة والأطفال»، ومن خلال اهتمامه بالتجديد الايقاعي باعتماده الصيغ المختلفة لشعر التفعيلة متجاوزاً بجدارة ما كانت نازك الملائكة تسعى إلى التضييق فيه وحجره، بلجوئه إلى التفاعيل المزدوجة، وجمعه في النص الواحد أكثر من تفعيلة، بل جمعه الوزن الخليلي مع الوزن التفعيلي. وكما حرص على الإيقاع، حرص على القافية بالذات، ففي رسالة منه إلى أحد الشعراء كتبها في 9 نيسان 1961م يرد فيها: «أنا من أعداء التفلت من القافية، صحيح أن هناك أبياتاً مقفاة في قصيدتك، لكنك على العموم أهملت القافية، وكان في الإمكان أن يتضاعف أثر صورك وأفكارك وعواطفك على النفس، لو كانت قصيدتك مقفاة» (رسائل السياب جمع ماجد السامرائي ص108). عندما يذكر السياب تتداعى إلى الخاطر عادة قصيدته الأكثر شهرة بين قصائده: «أنشودة المطر» التي كثيراً ما اختلف النقاد حول مضامينها وذهبوا في ذلك مذاهب شتى: مطر.. مطر.. مطر.. وفي العراق جوع! وينثر الغلال فيه موسم الحصاد لتشبع الغربان والجراد وتطحن السوان والحجر رحى تدور في الحقول.. حولها بشر! وهي قصيدة تنتمي إلى نهاية الفترة الأولى (الشيوعية) في مرحلة الالتزام، وهي الفترة الأولى التي نشط فيها السياب في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد نظمها في الكويت التي سيلوذ بها في أيامه الأخيرة حيث عولج في مستشفاها الأميري وكتب إلى أمير البلاد قصيدة عمودية طالبه فيها بمساعدته، وحيث مات. ومن الكويت ينقل جثمان الشاعر براً إلى أرض العراق ليدفن فيها. توفي بدر بعد ظهر يوم الخميس في 14/12/1964م فختمت بموته سلسلة طويلة من الآلام المبرحة والعذاب النفسي الفائق الحد ومعاناة الوحدة والغربة والقفر وغياب الرجاء وتوقع الموت في كل لحظة على مدى أربع سنوات. ويستحق يوم الجمعة الذي تلا ذلك اليوم وقفة خاصة، وقفت سيارة كبيرة حمراء اللون فيها شخصان كويتيان (لعل أحدهما صديقه الوفي الشاعر علي السبتي) في مجلة السيف بالبصرة، سأل الكويتيان: هل يوجد مسجد قريب؟ فأجاب شخصان آخران: «إن جامع السيف مفتوح لصلاة العصر». كانت السماء ممطرة وأدخلت الجنازة وصلى عليها أربعة أشخاص كانوا بقية من بقي في المسجد، وقد قرن بعضهم بين وفاة بدر وبين «المطر» خامس المشيعين لتلك الجنازة، وهي التفاتة لا بأس بها، فالمطر في شعر السياب يمثل الحياة والموت معاً. ولم يتخل اللون الأحمر عن بدر وإن حاول التنصل منه، إذا ما وقفنا عند لون السيارة الكويتية التي نقلت جثمانه إلى أرض العراق. وقول إحسان عباس في كتابه عن السياب إننا لو أمعنا في الإثارة، لربطنا بين الميت الذي لفظته أمواج الخليج في قصيدته «غريب على الخليج» وبين موت بدر نفسه غريباً على سيف الخليج نفسه! أحد الكويتيين الأربعة الذين رافقوا الجنازة كان قد اتصل هاتفياً بدار السياب ليخبر زوجته أن الجنازة قد وصلت. ولكن ما الذي كان يجري في تلك الساعة؟ أمر جلل، كانت الزوجة ومن يعاونها من أقربائها قد أخذوا يقومون بنقل الأثاث لإخلاء البيت الذي يسكنونه، فقد أصرت مصلحة الموانئ العراقية (التي كان بدر يعمل فيها) على ضرورة اخلائه غير مصغية إلى التماس الشفعاء وتوسلات الضعفاء، وكان بدر قبل وفاته شديد القلق على أولاده الثلاثة وعلى أمهم ولكنه وهو في طريقه إلى البصرة لآخرة مرة، كان قد استراح من كل هم وقلق. وقد ووري التراب في مقبرة الحسن البصري بقضاء الزبير، بيما كان صديقه علي السبتي يردد في دخيلة نفسه: «لا تبعد! لا تبعد».