أخطر ما يهدد الإنسان ليس مزاحمة الآلة، بل تحوله إلى آلة، عندما يستعبده الروتين، فيجعله ميت الحواس، مهمته في الحياة إنجاز المهام المنوطة به وجمع المال. في أحد صباحات «بوسطن» الباردة؛ حضر مدرس اللغة بريطاني الجنسية، وقد زاد حمرة وجهه احمرار الغضب، حكى لنا أن «الميترو» الذي كان يستقله للوصول إلى معهد اللغة توقف طويلا في إحدى المحطات؛ لأن منتحرا رمى بنفسه أمامه، كان المدرس شديد الحنق على اثنين إلى جانبه طفقا يكيلان الشتائم لهذا المنتحر المجهول؛ لأنه عطّلهما عن الوصول إلى مقر عملهما!. في حادث مشابه، ارتقى جندي عمود كهرباء، ناويا الانتحار بإلقاء نفسه من قمته، كان زملاؤه في الأسفل يترجّونه لينزل، يعدونه بمساعدته لإنهاء كل ما يحزنه، كان يستمع لهم وهم يحاولون إقناعه للعدول عن فكرة الانتحار، في هذه الأثناء قدم الضابط، خاطب المنتحر بلهجة آمرة أن ينزل، فليس لديهم في ظل زحمة العمل وقت لمثل هذا العبث، كان رد المنتحر القفز ليتحول إلى قطع متناثرة على الأرض، يقول الراوي إن ملامح الصدمة بدت على وجه الضابط، ربما لأنه أحس بمسؤوليته عن نفسٍ أزهقها سوء تقديره الموقف، واهتمامه بالعمل أكثر من الإنسان. المرحلة التي تحتاجها البشرية الآن هي الأنسنة، إعادة الإنسان إلى نفسه التي تتلاشى شيئا فشيئا بين المادة والتقنية، وإعادة الاعتبار لعقله ومشاعره وحريته في كل فكر وإدارة وسياسة وقانون.