طرحت الانتفاضات الشعبية العربية قضايا دور الدين في السياسة والحياة العامة والحزبية والحكم والتشريع. فقد مثلت هذه الانتفاضات عودة قوية لما درج على تسميته في العقود الأخيرة بالإسلام السياسي، وعاد النقاش الذي خمد لفترة، بالذات في مصر وتونس، لكي يحتل الصدارة في الحوارات واللقاءات الإعلامية والنقاشات العامة المفتوحة. وفي هذه الأجواء لم يعد الحديث عن «فزّاعة» الإخوان والإسلاميين عموما، بل عن حقيقة واقعية سياسية واجتماعية، يحرص الناس على معرفتها والتعامل معها بلا أوهام وتخيلات. ومن البدايات الأولى ظهرت أسئلة تبدو ثانوية أو هامشية، ولكنها ذات أثر مهم على مستقبل الإسلام السياسي في المنطقة. وقد اختلفت المنطلقات والمقاصد، وبعضها غير بريء والآخر موضوعي. فقد بادر البعض من إسلاميين وغير إسلاميين.
بالسؤال عن تحديد الدور أو مكانة الحركات الإسلامية في تفجير هذه الانتفاضات الشعبية. وقد قصد البعض أن يستفيد من الإجابة، في تقدير حجم وأثر مسار الحركات خلال الفترة المستقبلية. ولكن جماعة الإخوان المسلمين المصرية وحركة النهضة التونسية أقرتا بأن دوريهما جاءا لاحقين، ولم يدّعيا أي مبادرة أو سبق. فالإخوان لم يشتركوا في مظاهرة 25 يناير، لأسباب عقلانية تماما، فقد كانوا مشغولين بقضية الشرعية، ومن الخطأ إثارة أو استفزاز النظام حسب تقديرهم بالمشاركة في مثل هذه النشاطات السياسية. وبعد وضوح الرؤية وأن الأمر أكبر من مظاهرة واحتجاج صاخب، نزل الإخوان إلى ميدان التحرير بكل قدراتهم التنظيمية، وحتى «القتالية» في ما عرف بواقعة الجمل!
ومنذئذ شرعوا في تقديم صورة لتأكيد أنهم الأكثر تنظيما ونفوذا. ولحسن توفيقهم استطاعوا بيع وترويج الفكرة لدى القوى المؤثرة في هذه المرحلة، والتي بدأت التعامل مع الأمر كإحدى المسلمات. اكتسبت الحركات الإسلامية الشرعية وأكثر، فهي الآن الأكثر ظهورا في الإعلام، وقد جيرت صمودها الطويل ضد النظم الدكتاتورية في شكل ميلاد بارز وملفت، وبدأت بلا تردد في ممارسة كل أشكال النشاط التي لم تعد محظورة ومطاردة. ولكن ليس من المبالغة القول بأن العمل العلني سيحمل معه تحديات كثيرة وصعبة.
ويري بعض الباحثين أن عملية الانتقال في حد ذاتها من السرية إلى العلنية، تمثل مشكلة كبيرة تظهر في شكل اختلافات كان يخفيها العمل السري، فهو في كثير من الأحيان مركزي وقليل المحاسبة والشفافية، فهناك عملية تفويض في كثير من الأحيان للقيادات بالتصرف بدون العودة للقواعد. وهذا فعل قد لا يكون ديمقراطيا تماما، ولكنه يحفظ الوحدة والتماسك. ونستطيع القول بلا مجازفة: إن أي حركة إسلامية لو خيرت بين خطر الانقسام وغياب الديمقراطية الداخلية، لضحت بالأخيرة. وقد بدأت من الآن تجاذبات الانقسام والتشرذم والاختلاف، إذ يشعر المرء بوجود أكثر من جناح، وأحيانا تتحدث القيادات وكأنها في أحزاب مختلفة. وقد يكون الموضوع بسيطا وليس قضية فكرية، مثل هل سيرشح الإخوان شخصا للرئاسة؟
أو من سيدعمون في الانتخابات؟ والمشكلة في كون الخلافات معلنة وتظهر مباشرة في أجهزة الإعلام وتتناوشها الآراء. واجهت حركة الإخوان المسلمين المصرية قضية التوفيق بين النشاط السياسي مقابل الدعوي، وهذا خلاف قديم وشديد العمق. فقد كان الإخوان عند نشأتهم يرفضون، بل يدينون الحزبية، باعتبارهم حركة دعوية مهمتها تربية وتطهير المجتمع، قبل التفكير في الوصول إلى السلطة عن طريق العمل السياسي. وهذا الخلاف والجدل أثّرا على تنظيمات إخوانية في البلدان المجاورة مثل السودان. فقد كان هذا سبب الانقسام إلى جبهة الميثاق الإسلامي بقيادة حسن الترابي، والإخوان المسلمين تحت زعامة الصادق عبدالله عبدالماجد.
ومن هذا المنظور دخل الإخوان المصريون في صراع قد تكون نتائجه بعيدة الأثر، فقد طرح سؤال علاقة الجماعة بالحزب الجديد؟ وهذه قضية ليست شكلية وتنظيمية، بل هي في جوهر مدنية التنظيم السياسي: فهل هم جماعة دينية أم حزب سياسي؟ إذ يسأل البعض بعد أن يغيّر الحزب اسمه وينفصل عن الجماعة فماذا يتبقى له من هوية؟ لذلك يؤكد نائب االمرشد في مؤتمر للإخوان بمحافظة الشرقية، أن حزب الجماعة ستكون له مرجعية إسلامية واضحة، وأنه يستقي أفكاره ومبادئه من جماعة الإخوان المسلمين، مشددا على أن الانفصال بين الحزب والجماعة غير مطروح؛ لأنه ليست هناك مؤسسة في الدنيا تنشئ حزبا ثم تتركه للجمهور، ولكنها تفرض فيه رأيها وفكرها. وانتقد ممثل شباب الجماعة بائتلاف الثورة هذه الآراء، وهذه بوادر أزمة قادمة (صحيفة المصري اليوم 14/4/2011). وفي حالة غلبة نفوذ الجماعة، ستطرح قضايا الأقباط والنساء بشدة داخل الحزب الجديد.
يحاول الحزب الجديد أن يكون وسطيا كما يقولون في فهمه للدين الإسلامي، ولكن مصر تشهد تناميا وتوسعا مزعجا للجماعات السلفية، التي تنافس الإخوان دينيا، وتدخل معهم في مزايدات عقائدية محرجة. ويحضرني هنا قول أحد المفكرين الإيرانيين: «الإسلام بحر كبير يمكن لأي شخص أن يصطاد السمكة التي يريدها، مثل كل الأديان الكبرى». ويقصد بذلك أنه مستودع للقيم والرموز والأفكار، التي يمكن أن يستخلص منها أي نظام للسياسة أو المجتمع. واختيار هذه الفكرة أو تلك حسب تفسير معين، ليس سببه النص أو أصل الدين، وإنما يرجع ذلك إلى الحاجة الراهنة لمعضلة سياسية إسلامية، والحاجة ملموسة وهي غالبا غير دينية تماما، مثل الرغبة في تحدي السلطة أو الاحتفاظ بالسلطة، أو الحاجة لتعبئة الجماهير المسيطر عليها (غالبا ما تكون مدينية) في عمل سياسي، مفصلة أيديولوجية قومية ضد الهيمنة الخارجية وضد المرتبطين بالغرب داخل المجتمع، والحاجة لضبط النساء، القيام بإصلاحات سياسية واجتماعية تهدف لتقوية ما يسمى بأسلمة المجتمع.
وهنا يدخل الإخوان في تنافس يحرمهم في النهاية من الاجتهاد وتجديد خطابهم السياسي والديني، وهذا مأزق ينتظرهم، وسوف يحد من حرية حركتهم، خاصة وقد بدأ السلفيون في افتعال معارك مع الصوفيين من خلال حملة تحطيم الأضرحة. وفي تجارب عديدة لم يجد الإخوان صعوبة في التحالف مع الصوفيين، ولكن في الأوضاع المصرية الراهنة سيكون الخيار الإخواني صعبا.
التحدي الحقيقي؛ هل ستكون الحركات الإسلامية قادرة على أن تتحول إلى أحزاب ديمقراطية كاملة الإيمان بالديمقراطية، مثل الأحزاب المسيحية الأوروبية؟ وهذا يعني تبني الديمقراطية كرؤية للعالم، وليس مجرد وسيلة للتداول السلمي للسلطة وقبول التعددية الحزبية والانتخابات. فالديمقراطية فلسفة وقيم ومبادئ حديثة، جاءت في البداية من الغرب، ولكنها الآن ذات طابع إنساني شامل وعام. سودانايل