يكن الرئيس مبارك ولا الشعب المصري يتوقع أن تكون النهاية بهذا الشكل .. فالشعب المصري لم يثر طوال تاريخه على حاكمه .. الشعب يثور على الإحتلال أو يصرخ من الوجع ولكنه لم يفعلها على مدى تاريخه الممتد في عمق التاريخ ليسقط حاكمه .. البطل الحقيقي في إسقاط الرئيس مبارك هو الشعب المصري بشقيه المدني والعسكري .. كما هتف الشارع بإخلاص وصدق ( الجيش والشعب إيد واحدة) ولكن هناك عشرة أشخاص يمكن أن نعتبرهم ساهموا بشكل كبير في تحرك الشعب هذا التحرك الجماعي والدراماتيكي في تاريخه .. والمدهش أن معظم هؤلاء الذين حركوا الشعب نحو الثورة كانوا من أتباع الرئيس وأصدقائه والمحسوبين عليه وأن بعض هؤلاء الأشخاص هم رمز لأسماء متعددة لعبت نفس الدور وساهمت في أن تعيش مصر شتاء الغضب وهي تأمل أن يأتيها ربيع الحرية .. العاشر : زين العابدين بن علي من العبث أن نقول أن الثورة المصرية جاءت لتقليد الثورة التونسية .. فمصر كانت حبلى بجميع المقومات التي يمكن أن تصنع الثورة أو الإنفجار .. ولكن هذا لا ينكر أن ما حدث في تونس كان المحفز الأخير لثورة المصريين .. لقد بدا الأمر مثل وقت مدفع اللإطار في رمضان .. عندما نجلس جميعا (بالآلاف) على مائدة الرحمن منتظرين وعلى رؤسنا الطير .. وفجأة .. وعندما نجد أحدهم يرفع كوب الماء إلى شفتيه ننطلق جميعا في الأكل .. ليس لأننا نقلده وإنما لأننا بالفعل جائعين وننتظر لحظة الإنقضاض على الطعام التاسع : محمد البرادعي لا يتمتع الدكتور البرادعي بالبريق الخطابي .. وأفكاره النخبوية تبدو بعيدة تماما عن تراب الشارع .. وهو لا يبدو طامعا في الرئاسة وربما هو أيضا لم يعمل أبدا لها .. وغيابه الدائم عن مصر يجعله يبدو أشبه بالخواجا الذي يأتي فيركب الجمل عند الأهرامات ويغوص تحت الماء في الغردقة ويأكل الطعمية والملوخية ويتعلم أن ينطق كلمة "سلامو آليكو" بلجهة مكسرة فيعتبر أنه قد أصبح يعرف كل شئ عن مصر .. ورغم كل ذلك .. إلا أن الدكتور محمد البرادعي بمكانته الدولية العظيمة وأخلاقه الدمثة قد فتح عيون المصريين على حقيقة جديدة تماما عليهم رغم أنها بديهية .. أن مصر تمتلك رجالا يصلحون لحكم مصر غير حسني مبارك وجمال مبارك .. وبالتأكيد يشكر للدكتور البرادعي أنه أول من فتح عيون المصريين على هذه الحقيقة كما أن جهوده لبلورة الكفاح السلمي من خلال الجمعية الوطنية للتغير كانت جهودا محمودة وفي الإتجاه الصحيح .. وجعلت الناس يدركون أنهم يمكنهم أن يحتشدوا بالملايين على فكرة إسترداد مصر كما إجتمعوا بالملايين على التوقيع على بيان التغيير الثامن : أنس الفقي مثل الدبة التي قتلت صاحبها مارس السيد أنس الفقي الأداء الإعلامي في تليفزيون الدولة .. أسقط مصداقية هذا الإعلام عند الشارع فإتجه الناس إلى القنوات الأخرى وإمبراطورية الفيس بوك كمصدر للإعلام .. رفع الناس شعار "الكذب الحصري عند التليفزيون المصري" فأصبح أي خبر أو معلومة ينقلها التليفزيون تحمل طابعا عكسيا ساخرا عند الناس .. فإذا شهر التليفزيون بالجماعة المحظورة تعاطف معهم حتى الليبراليون والأقباط .. وإذا ألحت القناة الأولى على دبج قصائد الشعر في مديح السيد الرئيس قرأ الناس هذه الأبيات على أنها من أبيات الهجاء .. وعندما وصلت الأمور إلى المرحلة النهائية فشل الإعلام الحكومي المهلهل في تقديم أي شئ لحماية النظام أو حشد الناس معه لأنه ببساطة كان قد فقد المصداقية منذ وقت طويل السابع : شلة موقعة الجمل في لحظة معينة .. وعندما خرج الرئيس مبارك ليعلن كلمته التي لم تقدم أي شئ حقيقي وفعلي سوى اللعب على عاطفة المصريين بجملة " إنه يريد أن يموت على أرض مصر" ورغم أن الرئيس مبارك لم يجتهد حتى ليرسم تعبيرات التأثر على وجهه ذي التعبيرات البلاستيكية الجامدة .. فإن مذيعي الفضائيات قاموا بالواجب .. فبمجرد إنتهاء الرئيس من إلقاء كلمته ترقرقت الدموع في عيون جميع المذيعين على جميع القنوات الخاصة والحكومية .. حتى معتز الدمرداش شخصيا رغرغ بالدموع .. ومنى الشاذلي كانت على وشك "الشنهفة" وهي تطلب الذهاب إلى فاصل .. رد الفعل العاطفي المبالغ فيه جعل كثير من ربات البيوت تمصمص الشفاه وتعتبر إن الرئيس عداه العيب .. وسرعان ما انتقل نفس الشعور إلى فئات أخرى من الشعب لم تحلل مضمون ما قاله الرئيس لتكتشف أنه لم يمنح الشعب أي شئ إلا بعض الوعود الإنشائية بل إنه حتى لم يرفع قانون الطوارئ أو يتعهد بعدم التوريث أو يحل مجلس الشعب أو يغير الدستور .. ربما لو مر بعض الوقت بعد هذه الكلمة الهلامية لضعف الزخم المحرك للثورة ووجد الشباب أنفسهم معزولين شيئا فشيئا .. ولكن ولأن "ذيل النظام عمره ما يتعدل" تعجلت شلة الحزب الوطني إياها من رجال أعمال عودة الأمور إلى ما كانت عليه وسيروا البلطجية ليقوموا بموقعة الجمل المفزعة التي أسقطت آخر أوراق التوت عن النظام فبات عاريا "بلبوصا" أمام الجميع السادس : إبراهيم عيسى كثيرون كانوا ينتقدون النظام المصري والحكومة المصرية .. ويسرفون في النقد والسخرية أحيانا .. ولكن إبراهيم عيسى بالذات هو أكثر من رفع سقف النقد إلى الرئيس مبارك بشكل مباشر .. كان يرى أن أخطاء الحكومة وأخطاء النظام كلها أصلا أخطاء الرئيس .. كان عيسى أكثر من تجرأ على مقام الرئاسة التي كانت محاطة بهيبة مقدسة بين الصحفيين والإعلاميين والكتاب .. كما كان أول من تنبأ "بتنظيم المولعين بجاز" في روايته الممنوعة مقتل الرجل الكبير .. ولم يكتف عيسى بممارسة النقد في مقالاته فقط وإنما أخرج في مدرسته الصحفية (الدستور) جماعة كبيرة من الصحفيين ذوي اللسان "الزالف"على رأي فلاح كفر الهنادوة) والسقف العالي والجرأة في الإشتباك والنقد كان لهم دور كبير في تهيئة الأجواء لإسقاط الرئيس الخامس : مرسي عطا الله هو مجرد إسم من أسماء كثيرة جدا أوصلت الرئيس مبارك إلى هذا المصير .. رئيس يهتف شعبه بسقوطه .. ثلاثين عاما قضاها الرئيس مبارك رئيسا ولم يسمع أبدا كلمة نقد واحدة من أحد الصحفيين الذين يضعهم كرؤساء للصحف القومية .. رفعوه فوق مصاف البشر وفي مراتب الآلهة .. فهو الحكيم الذي لا يخطئ .. صمته حكمة وكلامه حكمة .. ورؤساء التحرير القوميون يتبارون في كيل المديح والنفاق الذي يفسد أي شخص مهما كان معدنه طيب أو شخصيته مرسي عطا الله لم يكن وحده في قافلة رؤساء تحرير النظام بل إن هناك من هم أكثر قربا وإلتصاقا بالنظام منه من أيام سمير رجب إلى عبد الله كمال ولكن ما يميز مرسي عطا الله هو أنه أول رئيس تحرير يخلعه شعبه من الصحفيين في مظاهرة قلما تحدث داخل المؤسسات الصحفية لا أعرف لماذا أتذكر ما حدث مع مرسي عطا الله في مؤسسة الأهرام كنموذج مصغر لما حدث مع مبارك فيما بعد .. فمرسي عطا الله حكم الأهرام المسائي بقانون الطوارئ 15 عاما كان فيها الحاكم المطلق .. ثم إمتد نفوذه بعد ذلك إلى كرئيس لمجلس إدارة المؤسسة .. ولكنه ظل يضغط على صحفيي الأهرام بالتعالي والديكتاتورية حتى فاض بهم الكيل ولأول مرة في تاريخ الأهرام يقوم الصحفيون بمظاهرات ضد رئيس مجلس الإدارة .. وعندما وجد مرسي عطا الله معظم صحفيي المؤسسة قد توحدوا ضده .. فعل مثل حسني مبارك بالضبط .. حاول اللعب على الأمن .. ودفع بعض مؤيديه من الموظفين والعمال للتصدي للصحفيين في مظاهرة مضادة .. بل تورط أحد رجال أمن المؤسسة في وضع عبوة متفجرة بجوار المبنى للإيحاء بأن الأوضاع يمكن أن تتطور إلى الاسوأ لتحمل الخيار الأمني التآمري الرهيب الذي تبناه نظام الرئيس مبارك فيما بعد (الفوضى أو مبارك) .. خروج مرسي عطا الله قدم رسالة لشباب الصحفيين بالأهرام والجماعة الصحفية في دائرتها الأوسع بأن تحقيق المستحيل ممكن وأن وحدة الصف التي زلزلت عرش الديكتاتور الصغير يمكن أن تحقق نفس الإنجاز في مواجهة أي ديكتاتور آخر مهما علا شأنه الرابع : محمد منير ليست مصادفة أن تخرج أغنية "إزاي" شديدة الصدق والوجع والتعبير لحالة 25 يناير رغم أن منير سجلها قبل الأحداث .. ولكنني بالطبع لم أضع "الملك" في هذه القائمة التي أسقطت "الرئيس" لأنه قدم أغنية إزاي .. ولكن لسبب آخر فمحمد منير كفنان كان هو الخيط الذي يلضم مشاعر الإنتماء والتمرد والشجن في حب الوطن عبر ثلاثين عاما .. في حفلات محمد منير كنت أجد دائما أجيالا مختلفة : كهول في الخمسينيات وشباب في الثلاثينيات ومراهقون لم يتعدوا العشرين .. كلهم يتمنون يوما يفتحون فيه "الشبابيك" ليتنشقوا عبير "شجر الليمون" ويهتفوا في وجه الظلم : طعن الخناجر ولا حكم الخسيس فيا" .. هناك مبدعون كثيرون ساعدوا على الحفاظ على هذه المشاعر الراقية المتعلقة بالحلم والأمل طازجة في قلوبنا هناك مخرجون وسينمائيون وشعراء وروائيون وفنانون ساهموا في أن تظل روح الشعب حية رغم الموت الذي يسري في كل شئ من حولنا .. ولكن محمد منير كان أبرز الذين ربطوا بين الأجيال وساعدوا في تكوين مزاج خاص وروح مميزة تبشر بالثورة والتمرد الثالث : جمال مبارك الفارق الرئيسي بين السيد جمال مبارك وبين الرئيس حسني مبارك أن الرئيس مبارك واحد من الشعب فعلا .. ولد في قرية صغيرة وكان يسير في طفولته على قدميه كيلومترات كل صباح ليصل إلى المدرسة "تشعبط" في المواصلات العامة وجلس مع الناس على المقهى وبالتأكيد جاء عليه يوم من الأيام إقترض فيها بعض الجنيهات في إنتظار الفرج أو المرتب الذي يتقبله المصريون أول الشهر .. ولكن السيد جمال مبارك لم يكن يعرف أي شئ عن الشعب المصري .. فقد قضى مراهقته وهو إبن نائب رئيس الجمهورية وقضى حياته بعد ذلك وهو إبن الرئيس .. من المؤكد طبعا أنه لم يتشعبط يوما في مواصلات عامة ولم يجلس يوما على المقهى ولم يفتش يوما في جيبه عن بعض الفكة ليشتري ساندوتش فول مع أصدقائه بعد مشاهدة فيلم في دور السينما بوسط البلد .. السيد جمال مبارك كان يخاطب المصريين كأنه قادم من كوكب آخر .. كان من الممكن أن يكون رجل أعمال ناجحا أو موظفا تنفيذيا في مصرف أجنبي كما بدأ حياته .. ولكن دخوله معترك السياسة والإصرار على الدفع به في الواجهة كوريث للعرش الرئاسي أضر بمبارك الأب ولم ينفع مبارك الإبن في أي شئ الثاني : حبيب العادلي القبضة الأمنية يجب أن تكون صلبة في غير شدة ولينة في غير رخاوة .. بهذه المعادلة حكم الرئيس مبارك عبر 30 سنة من قانون الطوارئ فرغم حالة الطوارئ إلا أنها لم تكن خانقة على حياة المواطنين العاديين ما لم يكونوا أعضاء في المحظورة أو لهم علاقات بجماعات عنف ذات طابع ديني .. ولكن يبدو أن حبيب العادلي في السنوات الأخيرة لم يستطع أن يضبط مقادير المعادلة .. فاختلت الأمور .. تكررت تجاوزات من ضباط صغار أو مخبرين وأمناء شرطة .. وجاء حادث خالد سعيد ليشعر الناس أن التجاوزات يمكن أن تصل إليهم في منازلهم .. شعر كل شاب مصري أن ما حدث لخالد سعيد يمكن أن يحدث له اليوم أو غدا .. وزاد من فداحة القضية أن وزارة الداخلية استماتت في الدفاع عن إثنين من المخبرين لدرجة أن يتم تزوير رواية رسمية لحادثة القتل تتنافى مع ما حدث أمام عيون الناس جميعا في عرض الطريق .. زيادة النفوذ الأمني في المرحلة الأخيرة وصل إلى كل مجالات الحياة وبالذات في الصحافة والإعلام .. وسرعان ما انفجر الموقف لتجد الشرطة نفسها في مواجهة غضب الشارع الذي لم يتم التعامل معه بطريقة سياسية فجرف الغضب أمامه كل شئ الأول : أحمد عز هذا هو "الزغلول الكبير" على رأي أستاذ الكوميديا الراحل فؤاد المهندس .. فلولا وجود أحمد عز المستفز في واجهة الأحداث لربما جرت الأمور بطريقة مخالفة ونجح الرئيس مبارك في تنفيس غضب الشارع أو منعه من الإنفجار .. كان الشارع المصري طوال 30 سنة مثل ضفدع في إناء به ماء ترتفع درجة حرارته بالتدريج شيئا فشيئا .. ولذلك فقد كان من المنتظر أن يتم سلق الشعب دون أن يدرك الشعب أن الماء قد أوشك على الغليان .. ولكن رفع درجة الحرارة بشكل عاجل ومباشر إلى درجة الغليان جعل الضفدع يقفز من الإناء .. السيد أحمد عز تعامل مع السياسة بمنطق التاجر الذي يريد أن يربح كل شئ ويحتكر كل شئ فأصبح نفوذه الصاعد الكاسح المستفز علامة سلبية في وجه النظام خصوصا مع ما رافقه من فساد فاحت رائحته .. وكانت إدارته للإنتخابات البرلمانية الأخيرة هي القشة التي قصمت ظهر البعير وجعلت الشعب يشعر بفقدان الثقة التامة مع الحكومة .. وقطع الرئيس مبارك آخر خيوط الثقة بينه وبين شعبه عندما خرج أمام البرلمان المزور بالكامل ليمزح ويسخر هازئا من قوى المعارضة : "سيبوهم يتسلوا" .. ولم يدرك الرئيس أن الشعب إذا شعر بالإهانة فإن تسليته الوحيدة ستكون الإطاحة بالرئيس والنظام بأكمله