المعضلة ليست في «مرسي»، ولا في «مصر» حتّى، ولا في «شعبها»، إذ يمتلك مرسي عصاً سحرية لحكم مصر، ألا وهي «شعب مصر» ذاته، فالشعب المصري لو آمن بفكرة ما فإنه الأقدر على جعلها حقيقة مهما بدا أنها مستحيلة. إن ما يحدث في مصر الآن يمكن تلخيصه في عدة نقاط هي: أولاً: منذ وصل محمد مرسي سدة الرئاسة وهو يتجاوز المأزق تلو المأزق، فقد انتخبوه ثم خرجوا من صناديق الاقتراع للهتاف ضده. ليس من المجدي الحديث عن «عقم» ما حدث من الجماهير في مصر خلال حكم مرسي، ولا عقم ما يحدث الآن في الشارع المصري، وكأن الأمر أشبه ب «حالة نفسية» اجتماعية أصابت كثيرين فجعلتهم يدمنون «الريبة» الجماعية، ويفكرون في ضربة استباقية خوفاً من أن يتكرر «عهد الاستبداد». ثانيا: كانت فكرة «الفرعون» فكرة قارّة في الذهن الجمعي لمصر، فأهرامات مصر شاهد رئيس على أن الفرعون لا يفنى ولا يسقط، لذا كانت المظاهرات على أشدها منذ مطلع الألفية الجديدة ضد حكم الرئيس المخلوع، لكن أحداً لم يهتف بسقوطه، هتفوا ضد الفساد، وضد التوريث، وبقي «الفرعون» خارج أي خيال جامح، ثم جاءت ثورة تونس لتصدم المصريين بأن الفرعون يمكن أن يسقط. كان التونسيون بداية انفراط العقد في الوطن العربي ابتداء من مصر، لكن هذا لا يبرر للمصريين أن يجعلوا من «الحالة الثورية» حالة مستمرة، فقبل أن يثوروا على مرسي وهو من انتخبوه، كانوا قد دعوا بسقوط حكم العسكر الذي كان مؤقتاً، بل وكان سنداً لهم في إسقاط حكم مبارك. إن أسوأ ما في مصر الآن هو أنهم لم يعودوا يميزون بين الثورة على رئيس غير منتخب امتد حكمه لأكثر من ثلاثة عقود وبين الثورة على من انتخبه الغالبية بعد أشهر قلائل من حكمه. ثالثاً: إعلام مصر إعلام قوي وفاعل، وهو مهيمن على توجيه الرأي العام المصري، لكنه وصل درجة من الانفتاح وحرية التعبير إلى حدّ أنه يستطيع تزييف الواقع وقلب الأحداث رأساً على عقب، فضلاً عن «تهويل» أي أمر مهما بدا تافهاً لا يستحق الذكر، وما قضية المحامي المصري الذي ألقي القبض عليه في مطار جدة منا ببعيد، إذ تحوّل من «مهرّب» مخدرات إلى حقوقي ومناضل، جاء هذا التحوّل ببركة انفلات الإعلام المصري وبرامج «التوك شو». وفي الأزمة الحالية يبدو أن إعلام مصر يمارس ذات الدور، فقد حوّل مرسي إلى مستبد في غضون شهر، بل مارس من خلاله بعضٌ ممن لديهم «فوبيا إسلامية» أمراضهم المزمنة على هيئة ضربة استباقية، وكل من خسر في صناديق الاقتراع مقابل مرسي توجّه مباشرة للاستديو، فليس بصناديق الاقتراع وحدها يتم حكم مصر. رابعاً: إن فكرة «خطورة حكم الإخوان» هي الفكرة التي كرّسها نظام مبارك طيلة أكثر من ثلاثين سنة، وبهذه الفكرة مارس استبداده ضدهم، وقد سقط حكم مبارك، لكن تلك الحقبة المظلمة من تاريخ مصر لم تذهب بكامل ظلاميتها، إذ أسقط المصريون الحكم المستبد لكنهم أخلصوا لأفكاره البائسة، فخمسة أشهر ليست فترة كافية لتظهر النوايا ويتم الحكم عليها. خامسا: خروج مرسي من حزب الإخوان لا يعني أن يتم اتهامه بالانحياز لهذا الحزب في كل مناسبة، ولا الدعوة له لتحرير فلسطين على سبيل التعجيز كما حدث في أزمة غزة الأخيرة، فما حدث في غزة مؤخراً لو حدث في العهد البائد لتم إغلاق المعابر لغزة لعشر سنوات قادمة. ما يتم في عهد مرسي هو أفضل ما يمكن فعله في ظل المعاهدات الدولية والضغوط المختلفة على مصر. أيضاً، كون مرسي يخرج ليخطب في عدد من مؤيديه لا يعني أنه أقسم ألا يتحدث إلا مع الإخوان وأنصارهم، ما يجعل البعض، حتى قبل أن يتولّى مرسي الرئاسة بالفعل، يردد بشكل مرض: «مرسي حاكم مصر وليس الإخوان وحدهم!». في كل دول العالم المتحضر لا بد أن يصل الحاكم للرئاسة عن طريق حزب ما، لكن هذا لا يجعله مثار سخط من خسروا الانتخابات. وأخيراً، القرارات الأخيرة التي اتخذها مرسي كان يمكن أن يتخذها أي رئيس غيره في مثل هذه الحال، فمصر أصبحت مهددة بنقض كل قرار سيادي عن طريق قضاء يبدو أنه انشغل عن قضايا المواطنين بالترجيح بين المتخاصمين السياسيين والمتجادلين حول الدستور وبنوده وتأويلاته. وهذا ما يعطل مصر عن الالتفات للبناء بدلا من الجدل السفسطائي العقيم، وهو ما يجعلها عرضة لدعوات «نخب» سياسية تجيد التأليب والتحريض في ظل حكم رئيس منتخب لم يكمل حكمه خمسة أشهر، بعد عجزها سابقاً عن فعل شيء في ظل حكم «شاركت فيه» في العهد البائد لسنوات طويلة، وسوّقت له بكل أسف.