الشرق - السعودية "وقفت أمام بوابة المجمع مترددة بين فكرة الخروج لمواجهته والدخول، كان القمر مُكتملا يُذكرني بسرٍ قديم، أوحى إليَّ بكثيرٍ من الجنون. ظللت واقفة أنقشُ أفكاراً تناثرت من محبرةٍ ضائعة، وجدتها تلك الليلة في شجنٍ بين وجدي والضلوع" كان المساء ساحراً بكل ما للكلمة من معنى، فكيف لا يكون والقمر يختال جسوراً في طريقه، ليتوسط سماءه المخملية، يملأها نوراً وسحراً وسكونا، باعثاً هالاتٍ من جماله لتُضيء الأرض برومانسية تضفي عليها شيئاً من الجاذبية وكثيرا من الجنون، يتهادى متغنجا ويتسلل في لحظات وراء الغيوم، في ثوانٍ يبددها على استحياء ليعود يناجيك بدراً، في دلالٍ يعصف بفكرك حُسنه والفتون. لا تملك في اتساعه في عينك سوى أن تردد سبحان من قال له كن فيكون. يا إلهي كم أسرني ذلك البهاء والنور، وأنساني أزمة السائق الذي تأخر في الوصول، شغلني القمر مكتملا، ليغمرني بضوئه في سكون، تمنيت في تلك اللحظة أن يلقي إلي بحبلٍ ليسحبني على حافته أقرأ من دواوينه، وأضيف وصفي والشعور، تملكتني رغبة عارمة لرسم الحياة في نفسي، وأشياء التمعت بها ومنها العيون، اجتاحتني كمية من المشاعر والأفكار، تكفي لملء مسافات طويلة من السطور، وقفت أمام بوابة المجمع مترددة بين فكرة الخروج لمواجهته والدخول، وكان القمر مُكتملا يُذكرني بسرٍ قديم، أوحي إلي بكثيرٍ من الجنون. ظللت واقفة أنقشُ أفكاراً تناثرت من محبرةٍ ضائعة، وجدتها تلك الليلة في شجنٍ بين وجدي والضلوع، تساءلت في نفسي جازمة، لا يُمكن أن يُترك هذا الجمال يُهدر في غفلة الناس دون أن يصول بفتنتِه ويجول، ولابد أن يُلقي بشيٍء من سحره في نفوس المحبين. لأول مرة لا أشعر بالانزعاج من تأخير السائق، انتظرت أمام بوابة المجمع وتسللتُ داخل أفكاري أنبشُها، أبحث عن سبب مقنع لظلم البشرية بحق جمال الطبيعة، حين ربطت بينه وبين كثير من الظواهر المرعبة والمخيفة، التي يتزامن حدوثها ليلة اكتمال القمر، فلا تخرج فقط الوحوش من جحورها أو الأشباح من قبورها، بل يتعدى الأمر ذلك إلى خروج المستذئب والمستكلب أحياناً، هل فعلاً القمر له تأثير في تغيير البشر وسلوكهم؟ لم أجد مرجعا مقنعا يُفند الأمر بطريقة علمية، سوى معلومات تندرج تحت ما يسمى بالعلوم الزائفة pseudoscience للتأثير القمري على وظائف الإنسان، توحي النظرية بأن هناك صلة ما بين مرحلة معينة من دوران الأرض والسلوك المنحرف لدى البشر. وقد قرأت دراسة أجريت عن علاقة تأثير القمر على الإنسان، جاء في نتيجتها حالات نزيف للمعدة والأمعاء، وحالات صرع وعدة محاولات للانتحار، وازدياد في نسبة الجرائم مثل القتل والسرقة، ويبقى الكون مليئا بأسرار لم نكتشفها بعد في مدرسة الحياة، التي مازالت تدهشنا يوما بعد يوم بمعجزة الكون والإنسان. جلست على مقعد حجري أمام المجمع، أنتظر بهدوء وأبحث في وجوه الناس، أزواجا، أطفالا، أصدقاء، لأرى تأثير الجو الذي فرض نفسه ذلك المساء عليهم، لعل أحدهم مثلي (سكنهم مساكنهم) يعيش مسحوراً تحت تأثير القمر، فما هي سوى ثوانٍ إذ خرجت امرأة تمسك هاتفها بيد وتغطي فمها بيدها الأخرى، تتحدث باكيةً، بصوتٍ مقهور، تعاتب، تهدد، تُذكر، تنثرُ جروحها بصوتٍ مسموع، لا بد أنها وصلت في ألمها لمرحلة لا تكترثُ لمن يسمعها «من يحب لا يخون، لا تبرر، لا تقسم، لا تكذب، استنفدت كل ما كنت أحمله لك». اقتربت، وضعت حقيبتها على الأرض، ثم ألقت نفسها بجواري. بأنفاسٍ متسارعة تشهق بغضبٍ ترمي بحممٍ، تزفر بكلماتٍ تئن جرحاً، أنهت المكالمة. أدخلت الهاتف بعصبية في حقيبتها، جففت دموعها، نظرت حولها، نهضت، وغادرت. توقفت سيارة أمامي، خرجت منها أم تحمل رضيعاً، وفتاتان في ريعان الصبا، حملت إحداهن حقيبة الرضيع، وفتحت الأخرى شنطة السيارة وأخرجت عربته، تعثرت الأم في عباءتها فأسقطت بطانيته، التقطت إحدى الفتيات الرضيع من بين يديها، والتقطت الأخرى الأم قبل أن تسقط، تناثرت أغراضهن في لحظة ارتباك، ليتعالى صوت الرجل القابع وراء المقود: «عمى يعميكن رقلات» لملمن أغراضهن سريعاً، ليعود بأعلى صوته «سكروا الباب وجع» ثم انطلق كالسهم، هرعن مسرعات توجههن الأم بكلماتٍ مختنقة :»لتلتقط كل واحدة غرضها بأقصى سرعة قبل أن يعود، لا نُريد مزيدًا من المتاعب «وقبل أن تُزمّ شفتاي من الإحباط، شاهدت زوجين يعبران الطريق، يُمسكان بأيدي بعضهما، يتوقفان قليلاً، ينظر إليها بأسى، تبادله بنظراتٍ مطمئنة، يتهامسان، ويكملان الطريق، لابد أن سحر المساء ألقى بظلاله الشاعرية عليهما، اقتربا من المدخل نظر إليها متمتماً «كم أكره حفلات الأعراس التي تستنزف الراتب وأكره السوق وأكره إصرارك»! كان المساء ساحراً وخلاباً، فانتهى وبقي الجنون.