أيقظ الربيع العربي الأمل في نفوس المجتمعات العربية، بعد أن نكّل بها الاستبداد والاستعمار، طيلة عقود مضت، فأتت لحظة الخلاص على شكل جماهير تجوب الساحات العامة، تُطالب بالقصاص من الظلمة، بالعدالة والحرية والكرامة. لكن، الأمل تلاشى بسرعة البرق، على وقع القمع الوحشي للأنظمة، وأسلمة الصراع، وعلى هدير دخول القوى الكبرى على خط تدمير لحظة انبعاث الأمل في الأمة. إن شئت قل هي عقارب الساعة أريد لها أن تعود للوراء، وإلى الأبد، كي تمنع الناس من مجرد التفكير في التمرد على الوضع القائم، وإن كان وضعًا بائسًا يكون فيه الموت خيارًا أفضل من الحياة. فلو تمعَّنا في الخطاب الأساسي لمطالب الفئات الاجتماعية التي خرجت، سنجد بأن العدالة والحرية منغرسة في قلب خطاب المطالبة بالحصول على الرغيف، وهذه المطالب لا شكّ بأنها مطالب سياسية في المقام الأول، وتمس أول ما تمس، بنية النظام السياسي والاجتماعي الذي ورّثهُ لنا الاستعمار، وهنا في ظني مكمن الخطر الذي شعرت به الأنظمة العربية، التي كانت تدعي زورًا وبهتانًا، أنها تُمثل صوت الجماهير وتعبر عنها. في هذه الأثناء، لو فتحنا قاموس الهجاء على مصراعيه في حق داعش وجرائمها بحق المجتمع العربي فلن نصل بذلك إلى نتيجة. الحق، أن داعش شكل فرصة. فرصة لتخيير الطبقات المسحوقة بين البقاء مسحوقين كما هم، أو الموت بالسيارات المفخخة، أوبطائرات الدرونز. في النهاية هو الموت، وإن بأشكال مختلفة، في حرب فرضت عليهم، وأعيد من خلالها ترتيب الأولويات بما يتناسب مع الغرب، وملحقاته، لا مع رغبات الناس وتطلعاتهم. وهي فرصة كذلك للتخلص من الأمل في إصلاح شامل لهذه الأنظمة المهترئة التي لم تعد تملك مقومات الحياة، لا من حيث الشرعية السياسية، ولا من حيث المحافظة على مصالح الناس، حيث تركت النخب الحاكمة الطبقات الفقيرة والمعدومة لوحدها حافية على قارعة الطريق، تنهشها الرأسمالية المتوحشة، وتُهين كرامتها أجهزةُ القمع الأمنية. عند دراسة الثورات لابد من دراسة الطبقات الاجتماعية بشكل مُفصّل لكي نفهم طبيعة الحراك الاجتماعي في أيّ بلد تقوم فيه ثورة، ولابد أيضًا، من دراسة الحاجات الاجتماعية التي زوّدت الناس بالعتاد للخروج من منازلها ومواجهة آلة القمع الفتّاكة، والتعرف على الطبقة المضادة للثورة، وأدواتها وأساليب مراوغتها، وإلا فاتنا الشيء الكثير. عند إمعان النظر في طبيعة البشر، نجد أن هدفهم الأول من النظام في مجتمع، هو توفير لقمة العيش، وحماية الوجود، ثم بعد ذلك يتم التفكير في آليات هذا التنظم، وأفضل وسائل توزيع الإنتاج. إذن، لو بسطنا الفكرة أكثر، وادعينا أن توفير الأمن الغذائي والنفسي العنصر الأهمّ في أولويات الفرد، فإن هذا الباب يُمكننا من الولوج لفكرة مفادها: إن الناس إذا ما فقدوا الأمن، أو شعروا باحتمالية فقدانه، فإنهم سيتمسكون بالقوي القادر على فرضه، وإن لم يكن عادلاً، وإن كان فاسدًا وظالمًا، كي لا يفقدوا أرواحهم ثمنًا للتغيير. لذا، علينا أن لا نستهين أبدًا بالنخب الحاكمة في الوطن العربي، فهي، أي النخب، باتت تستوعب دوافع الطبقات الاجتماعية للثورة والتمرد، وهي مع مرور الوقت والتجربة أضحت ضليعة في التعاطي مع الانتفاضات الشعبية، وإن عن طريق مستشاريها، من السياسيين المهرة الذين حوّلوا السياسة لحرفة تدر عليهم المال والنفوذ. إن النخبة المهيمنة، إذا ما شعرت بتهديدٍ وجودي، فقد يقودها جنونها ونزواتها في لحظة ما، لإعادة المجتمعات لنقطة الصفر، حيث الجميع في حالة اقتتال من أجل توفير الأمن ولقمة العيش، وهي إذ تفعل ذلك لا تفعله عن بلاهة، ولكن عن سابق إصرار؛ لمعرفتها العميقة بالسلوكيات السياسية للطبقات الاجتماعية، ومنها التوق الفطري للشعور بالأمن. بكلمة مختصرة، إن تحويل مسار العواطف الاجتماعية والسلوكيات السياسية للبحث عن الأمن، عوضًا عن البحث عن الحقوق السياسية التي يمكنها أن توفر العدالة الاجتماعية، والحرية السياسية، باتت استراتيجية مدروسة وليست محض صدفة. إن الاستقرار السياسي عامل مهم في تطور المجتمعات إذا ما رافقه تعزيز لمبادئ المساواة والعدالة في بنية النظام السياسي والاجتماعي للدولة؛ بل إن العامل الأساسي المهدد للأمن، يتمثل في ترك الطبقات المُهيمنة تسرح وتمرح على حساب الطبقات المحرومة، وإن تدارك لحظة الانهيار، تستدعي على الأقل النظر إلى أسفل و مرعاة "التوزيع العادل للأمل"!