العربي الجديد منذ هبّت رياح التغيير على الخريطة العربية، قبل أربع سنوات تقريباً، وأنا دائمة الاطلاع على كتاب عبد الرحمن الكواكبي: "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". قرأته، أول مرة، وأنا طالبة في الجامعة، بتوصيةٍ من أستاذي، الدكتور أحمد الربعي، بعد نقاش حول الديمقراطية والإسلام في الوطن العربي. كان، رحمه الله، لا يفرض على طلبته رأياً في المسائل الخلافية، وخصوصاً ذات السمة السياسية، بل يحيلنا إلى مراجع لقراءتها، قبل استئناف النقاشات. سحرتني، بدايةً، لغة الكتاب، وكنت، يومها، غارقةً في اكتشاف الحداثة الشعرية، بقراءة شعراء عرب، كنت أتعرّف على تجاربهم. لذلك، لم أهتم كثيراً بأفكار الكواكبي السياسية والفكرية، على الرغم من انحيازي الشديد للروح الإصلاحية التي كتبت فيها. لا أتذكّر مصير نقاشنا مع الربعي، في ظلال قراءتنا كتاب الكواكبي، لكنني بقيتُ على صلةٍ بالكتاب، وقراءة كل شيء عنه، وعن مؤلفه، حتى أَن الربعي صار يتندّر على استشهاداتي به في كل نقاش لاحق، ويذكّرني، دائماً، أنه من أعارني نسخته، بعدما شكوت له أنني لم أجد الكتاب في مكتبة الجامعة. شعرت بحسرة، وأنا أعيد النسخة لصاحبها بعد سنة على استعارتها، تلاشَت تدريجياً، بعدما أصبح ممكناً الحصول على "طبائع الاستبداد"، بيسر، في مواقع الإنترنت. عدد صفحات الكتاب مئة إلا قليلاً، تتوزع مادته على هيئة مقالاتٍ كان الكواكبي يكتبها، وينشرها في الصحف والمجلات، قبل أن يعيد النظر فيها، ويجمعها في كتابه الذي أحسبه فريداً من نوعه، عربياً، حتى الآن. لذلك، شعرت بحاجتي الملحة لقراءته مجدداً مع بدايات موسم الربيع العربي، فاكتشفت أن الكواكبي، المولود في حلب، شخّص أمراضاً كثيرة لدى الأمة في ذلك الوقت، والغريب أن الأمة ما زالت تعاني من معظمها، وقد أصبحت مزمنة. المرض الأول الذي اعتنى الكواكبي بتشخيصه هو ما سمّاه "داء الاستبداد السياسي"، ويعرّفه بأنه "صفة الحكومات المطلقة العنان، فعلاً أو حكماً، التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء، بلا خشية حسابٍ ولا عقابٍ محققيْن". ويعدّد أقبح أنواعه، مبتدئاً باستبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، ويفصّل الأمر بأَنَّ الله خلق الإنسان حرّاً، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبداً قائده الجهل. ويعتقد الكواكبي أن المستبد فردٌ عاجز، لا حول له ولا قوة، إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأَنَّ تراكم الثروات المفرطة مولّدٌ للاستبداد، ومضرٌّ بأخلاق الأفراد. وينتهي إلى أن الاستبداد أصلٌ لكل فساد، والشورى الدستورية دواؤه. لا أدري كيف كان يمكن للكواكبي أن يطّور نظريته في الفكر السياسي، لو قدّر له عمرٌ أطول، ويستمر في التفكّر بأحوال الأمة، وخصوصاً أنه كان دائم التطوير لكتاباته وتنقيحها. فعندما بدأ كتابة مقالات كتابه في حلب، كان في مطلع شبابه ويعمل في الصحافة، ويصبر على مضايقات السلطات العثمانية له، بعد انتشار مقالاته ونشاطاته في توعية الأمة بحقوقها المسلوبة، وكان كلما أغلقت له السلطات صحيفة، حاول إصدار غيرها، وعندما أغلقوا أمامه كل الأبواب، ومنعوه من النشر، سافر في بلاد الله الواسعة، إلى أن استقرَّ في مصر، حيث ذاع صيته الإصلاحي، وانتظم في حركةٍ إصلاحية، يقودها كبار مفكري الأمة يومها. في ذلك السياق، نشر الكواكبي "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، معتبراً نفسه، في تلك المحاولة لمقاومة المستبد، مجرد "فاتح بابٍ صغير من أسوار الاستبداد". لكن خصومه رأوا فيها أكثر من ذلك بكثير، فلم يجدوا بدّاً من التخلّص منه، عبر صورة بشعة من الاستبداد السياسي، هي اغتيال الخصم، دسّوا له السم في فنجان قهوته، في يونيو/ حزيران 1902، فكان فنجانه الأخير في الحياة. لكن، كان الكواكبي، الذي ربط بين الفكر والحرية، قد ضمن انتشار فكره، فنال حريته الدائمة، وخرج من بابٍ كبيرٍ، فتحه فتحاً مبيناً.