التقرير - السعودية يثير حضور مفردة (التغلب) الكثير من الإشكالات في الحالة المعاصرة، حيث يحمل الكثير في ذاكرته موقفاً سلبياً وامتعاضاً عنيفاً من الموقف الفقهي المشهور في الإقرار بحكم المتغلب وعدم الخروج عليه حفاظاً على مصالح الأمة وصيانة لحقوقها من أتون الاقتتال والتنازع. والإشكال هنا ليس في نزوع طرفٍ ما إلى اعتبار هذا الموقف الفقهي موقفاً مرجوحاً في مقابل اختيار الخروج على الحاكم الجائر، فيكون رأيه ترجيحاً لقول على قول، ومصاولة علمية تجرد فيها الدلائل وتفحص البراهين، فالخلاف السلفي فيها قديم كما حكاه ابن حزم والقرطبي وابن العربي. وابن تيمية، وابن حجر وغيرهم. إنما المثير هو حالة الاستخفاف والاستهجان العنيفة لهذا الاجتهاد الفقهي واعتباره تأصيلاً للظلم وترسيخاً للفساد، وجعله سبباً لكل ما أصاب الأمة من تخلف وانحطاط، وأن هذا القول الفقهي كان خاضعاً لمؤثرات سياسية وحظوظ شخصية ضيعت حقوق الأمة وعطلت أحكام الدين وأهملت حقوق الناس، في مقابل نزوح أصحاب هذه النظرية لتقديس الحاكم وتعظيمه والحفاظ على مكانته، ونحو هذه التصورات التي ترسم صورة في غاية البشاعة عن هذا القول الفقهي الذي سار عليه أجلاء وفقهاء من أئمة الإسلام الكبار. ومن أحسن الظن منهم في هؤلاء الفقهاء بحث لهم عن أعذار تخفف من شناعة موقفهم المعيب فتلمس لهم من الخوف والضعف والجهل والمستوى المتواضع في فهم السياسة وبساطة الوعي ما يجعلهم غير مؤهلين لاستيعاب الكارثة التي حلت على الامة بسبب موقفهم الفقهي، هذا طبعاً موقف من يحسن الظن بأصحاب هذا الرأي، بينما جاء آخرون فأنزلوا معاول شتمهم وعيبهم فحمَلوا على أصحاب هذا الراي من السوء والقبح كل ما يمكن أن يحتمل عقلاً. حقيقة الأمر أن هذا الامتعاض والنفرة العنيفة من هذا القول الفقهي لم يكن غالباً مرده إلى بحث موضوعي علمي للقضية، إنما ثم عوامل خارج الموضوع هي التي كانت تغذي هذه الحالة النفسية، وأبرز ذلك عاملان: الأول: واقع الظلم الذي يتعرض له الإنسان في المجتمعات العربية والإسلامية من قبل السلطات الحاكمة، فهو يتابع بشكل يومي حالات الانتهاك المستمرة من المصائب التي تجعل الحليم حيراناً، وتحفز في قلب كل غيور ضرورة المبادرة بإصلاح هذا الوضع وصيانة الحقوق من هذه الانتهاكات، فينظر الشخص إلى الموقف الفقهي من قضية التغلب وكأنه سبب أساسي لهذا الحمل العميق من الانحرافات السياسية، فيقف من كلام الفقهاء موقفاً عنيفاً شديداً لأنه في الحقيقة لا يحاكمهم إلى ما قالوا، بل يحاكمهم وهو ينظر بسخط وألم إلى ما يشاهده ويتابع فواجعه. الثاني: اعتماد كثير من المواقف المعاصرة التي تبرر للظلم وتدافع عنه إلى الأقوال الفقهية التراثية، وتكرار حشرها لرأي الفقهاء في الموقف من التغلب في سياق تبرير انحرافاتها أو اجتهاداتها الخاطئة، حيث يجد الناس أنها تتخذ من مواقف الفقهاء تكأة لمواقفها الغالية في الطاعة وتضييع حقوق الناس، بما أحدث في وعي كثير من الناس ربطاً عصبياً بين أقوالهم وأقوال الفقهاء السابقين، فحين يقرأ كلام الفقهاء المتقدمين ينزله على تلك الفتاوى والمواقف، فكان محاكماً للفقهاء بما قال بعض المعاصرين وليس بما قالوه على الحقيقة. ويزيد الإشكالية هنا: أن المدرسة الغالية هي أعرف بالأقوال الفقهية وبمظانها وسياقاتها من عامة المتأثرين بالمدرسة التشويهية، فتجدهم يسلمون للمدرسة الغالية بالنتائج العلمية التي تقررها على اعتبار أنها تمثل المدرسة الفقهية التراثية، لأنهم غير قادرين على فحص الأقوال وكشف الخلل المنهجي عند المدرسة الغالية، فمن الطبيعي حينها أن تكون نتائج البحث عند الغلاة هي التي تعكس تصوراتهم عن كلام الفقهاء المتقدمين. هذان العاملان غذيا في نفوس الكثير مثل هذا الموقف المتشنج من نظرية التغلب الفقهية، فأصبح الرأي الفقهي يهاجم بعنف وينسب له كل شر، ويربط بالخلاص منه كل خير، حتى ولد كراهية لهؤلاء الأعلام بسبب هذا التصور المشوه عنهم. بل وزاد الاحتقان في نفوس بعضهم فاصطدم بالنصوص الشرعية التي تأمر بالسمع والطاعة في المعروف وتنهى عن الخروج فشعر انها تكرس للظلم والاستبداد وللنظرية الفقهية المتهالكة – حسب ما عمقه الاحتقان النفسي- فبدأ يخوض في سبل متفرقة حتى يتخلص من هذه الأحاديث فقيل هي أحاديث موضوعة فرضتها السلطة السياسية لتكريس هيمنتها وتقبلها الفقهاء لتبرير واقعهم المنحرف. وهكذا بدأ يضرب برأسه هنا وهناك ويحطم في مسلمات شرعية ذات براهين قطعية لمجرد شعوره أن واقعه المظلم وحالات الانتهاكات المعاصرة هي نتاج مرّ لهذا الموقف الفقهي ولا سبيل للخلاص من هذا الواقع إلا بهدم هذه الأصول الفكرية بأسرع طريقة. عقد من خيوط المشكلة حالة القصور المعرفي الظاهر بالمدرسة الفقهية التي يحمّلها كل هذه الشرور، فتجد الشخص يناقش ويعترض ويحلل ويبني النتائج الضخام ولو سألته عن مقروءاته التراثية لدهشت من ضحالة المادة العلمية التي يعرفها، وأن الكثير منهم لا يعرف من الفقه السياسي سوى مؤلفات يسيرة لا تتجاوز ما كتبه الماوردي والجويني، ونقولات شهيرة عن ابن حزم والأشعري وابن تيمية وابن جماعة تجدها في كل حديث عن الموضوع، وأصبحت بعض المصادر المعاصرة هي المنظار الوحيد الذي يبصر من خلالها إلى المدرسة الفقهية، بما أوقع الكثير منهم في أغلاط فاحشة وتصورات كارثية في فهم القول الفقهي، نتجت بسبب أن الشخص يحمل ذكاء وفهماً لكن من دون معلومات كافية. ستقول لي ماذا تريد أن تقول بعد كل هذه المقدمة الطويلة؟ أظن أن القارئ فهم جيداً أنني أريد أن أوصل فكرة سهلة جداً، هي أن النقد الشائع عن الموقف الفقهي من التغلب هو نقد يخفى عليه معالم أساسية في فهم الموقف الفقهي، فهو يحتاج أولاً أن يفقه موقف الفقهاء كما هو، ثم لينتقدهم بعد ذلك بما يشاء، وأن أكثر النقد المعاصر هو نقد سائب يخلط بين موقف الفقهاء المتقدمين وفتاوى بعض المعاصرين، ويلزمهم بما لا يلزم، وينسب إليهم ما لم يقولوا، ويحمل كلامهم ما لا يحتمل، وهو ما سيظهر جلياً حين نستعرض بالتفصيل الموقف الفقهي في هذه القضية. إذن، نريد الآن أن نستعرض الموقف الفقهي من قضية التغلب، ليدرك العاقل عمق الفهم وقوة النظر وصلابة الاستدلال، وأنه يقوم على نظرية عقلانية واعية متماسكة خلافاً للحالة الساذجة التي يصورها كثير من المعاصرين، والهدف طبعاً ليس أن هذا هو القول الوحيد لهم، فثم أقوال فقهية أخرى تخالفها، وليس السياق هنا سياق رد عليها ولا ترجيح، إنما الهدف بيان قوة الدلائل التي تخفيها حالة التشويه المعاصرة: أولاً: أن محل الكلام الفقهي هو في الموقف من المتغلب بعد أن يفرض حكمه وينقاد الناس له وتستقر له الأمور، وليس هو عن حكم التغلب نفسه، فهو باتفاق الفقهاء حرام يقيناً، ولا يجوز لأحد أن يغتصب الحكم من الناس بلا وجه حق، ويزداد الإثم إن أخذه بإراقة الدماء. إذن، فمن يتحدث عن هذه القضية فيقول إن الفقهاء أباحوا التغلب وأجازوا الخروج على خيار الأمة وأباحوا للمستبدين أن يستحلوا الدماء والأموال الخ هو إما لا يحسن أن يميز بين المسائل فيخلط عشرات المسائل في سياق بحث واحد، أو شخص يتعمد الكذب والافتراء في سبيل تشويه أقوال مخالفيه، وللأسف أن الكثير من الدراسات المعاصرة تقرر هذا، لا أقول تغريدات في تويتر أو منشورات في الفيسبوك، بل دراسات معاصرة من متخصصين يحملون شهادات الدكتوراه في تخصصات مختلفة، بل وبعضهم يحملها في تخصصات شرعية، تقول بلا حياء إن الفقهاء السابقين كان يرون جواز التغلب! ومشروعيته! وإباحته! بينما الواقع أن موقف الفقهاء كان واضحاً في هذه القضية. قال ابن حجر الهيتمي (الصواعق المحرقة 2/628): "المتغلب فاسق معاقب لا يستحق أن يبشر ولا يؤمر بالإحسان فيما تغلب عليه بل إنما يستحق الزجر والمقت والإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله". ويقول سعد الدين التفتازاني(شرح المقاصد5/233) بعد أن قرر الموقف من حكم المتغلب: "إلا أنه يعصي بما فعل" ويقول أبو المعالي الجويني (الغياثي 428): "إن الذي ينتهض لهذا الشأن لو بادره من غير بيعة وحاجة مستفزة أشعر ذلك باجترائه وغلوه في استيلائه وتشوفه إلى استعلائه وذلك يسمه بابتغاء العلو في الأرض بالفساد" وقال أيضاً: (الغياثي 428): "وإن كانت ثورته لحاجة ثم زالت وحالت فاستمسك بعدته محاولاً حمل أهل الحل والعقد على بيعته فهذا أيضاً من المطاولة والمصاولة وحمل أهل الاختيار على العقد له بحكم الاضطرار وهذا ظلم وعشم يقتضي التفسيق". فحكم التغلب ظاهر جداً، ومحل البحث هو في كيفية التعامل مع المتغلب حين تستقر له الأمور، وهي مسألة تختلف تماماً عن حكم التغلب، فمن ينسب إلى الفقهاء أنهم يجيزون التغلب هو كاذب مفترٍ عليهم، ومن يلزمهم فيحدث تناقضاً بين قولهم بحرمة التغلب وقولهم بعدم مشروعيته هو يخلط بين مسألتين مختلفتين، فلا علاقة بين حكم التغلب نفسه، وبين حكم هذا المتغلب لما يسيطر على الأمور، لأن البحث هنا عن معطى جديد مختلف عن الحالة الأولى. ثانياً: أن الحديث في موضوع التغلب عن حالة ضرورة لا يمكن فيها إقامة شورى ولا اختيار ولا حكم بلا دماء واقتتال، إنما هو في حال إما قبول بحكم حاكم معين وإن كان قد ارتكب ما ارتكب، أو الدخول في منازعة واقتتال بلا قدرة أو بما يؤدي إلى مفاسد غالبة ولا يدرى ما ثمرتها، وغالباً لن يؤدي بعد مزيد دماء وفتن إلا إلى حكم متغلب آخر، فكان الموقف العقلاني أن اختاروا للأمة اخف الضررين وأقل المفسدتين مراعاة لما يحقق المصلحة العامة للمسلمين. الإجابة المعتادة عند كثير من المعاصرين أنهم يقولون: (نريد العودة لسنة الخلفاء الراشدين، لا إلى فقه التغلب). ويسوقون الدلائل على أهمية الشورى والاختيار، ويشهرون الأضرار الناتجة عن الظلم والطغيان. هذا الكلام الشائع يصح لو أن الفقهاء في حال الاختيار كانوا يقولون نريد حكم التغلب! أو أنهم خيروا بين شورى وتغلب فقالوا لا حاجة لنا إلى الشورى، بل نريد التغلب! القضية في حال اضطرار لا إمكان فيها لحالة الاختيار ولا لسنة الخلفاء الراشدين، فما الموقف حينها؟ فلا حاجة لأن تذكر نصوص الشورى، ولا أن تأتي بمقولات الصحابة في الاختيار والشورى وحق الأمة، فليست بخافية على فقيه، إنما الخلاف ليس هنا، ففي حالة الاختيار والاستطاعة لا يختلف أحد أن الواجب هو الاختيار والشورى ورفض التغلب بلا حق، لكن هذا ليس هو محل الاختلاف. فسنة الخلفاء الراشدين هي في حال الاختيار، أما في حال الاضطرار فما هي سنة الخلفاء الراشدين أصلاً؟ حين يقول شخص أنني لا استطيع أن أصلي مستقبل القبلة فهل أصلي لأي جهة أم أترك الصلاة؟ فليس جواباً له أن تقول: يجب على المسلم ان يحافظ على استقبال القبلة وهي من شرائط الصلاة وتضييعها تضييع للصلاة، لأن الحالة حالة اختيار بين صلاة إلى غير القبلة أو ترك للصلاة، وليس في حال اختيار أن يصلي الشخص إلى القبلة أو غيرها. فمن يرفض موقف الفقهاء فالاتجاه الصحيح أن يقول إن الواجب هو القتال وخروج بعض الناس ولو كان قلة على السلطة، ومقاتلتها، والدخول في نزاع متواصل معها حتى يزول هذا التغلب، هذا هو الرأي الآخر، وحين يختار الشخص هذا المسلك سيظهر له وجاهة الموقف الرافض للقتال، أما حين يتحدث عن الشورى والاختيار والعدل وسنة الخلفاء الراشدين فسيشعر بمرارة وغثيان ممن لا يريد هذا كله ويريد أن يفرض حكم التغلب! لا حاجة إذن للحديث عن الظلم والقهر واكل أموال الناس بالباطل واستباحة الأموال والدماء، فالفقيه لا يخفى عليه شناعة هذه الجرائم حتى تطيل الكلام في الحديث عنها، ومحل النزاع ليس في حكم هذه القضايا، إنما في كيفية دفعها مع عدم الاستطاعة. ولهذا فالفقهاء مع قولهم بعدم الخروج هم أنفسهم يقولون إن الحاكم إذا وقع في الجور والطغيان وأمكن عزله بلا فتن ومفاسد ظاهرة فهو مستحق للعزل ولا إشكال، وحكي هذا محل إجماع (انظر: شرح المقاصد 5/257). قال ابن بطال: (شرح ابن بطال على صحيح البخاري 8/215): "فأما من رأى شيئًا من معارضة الله ببدعة أو قلب شريعة ، فليخرج من تلك الأرض ويهاجر منها ، وإن أمكنه إمام عدل واتفق عليه جمهور الناس فلا بأس بخلع الأول ، فإن لم يكن معه إلا قطعة من الناس أو ما يوجب الفرقة فلا يحل له الخروج". وقال الغزالي : (الوسيط 4/484) :"والإمام لا ينعزل بالفسق على الأصح للمصلحة ولكن إن أمكن الاستبدال به من غير فتنة فعله أهل الحل والعقد". وعند فقهاء الحنفية: (المسامرة شرح المسايرة 167، حاشية ابن عابدين 2/282-283): "وإذا قلد عدلاً ثم جار وفسق لا ينعزل ولكن يستحق العزل إذا لم يستلزم الفتنة". ثالثاً: أن السكوت عن المتغلب وعدم الخروج عليه ليس إقراراً لظلمه ولا دفاعا عنه ولا دعما له، هو فقط مراعاة لما يحقق مصالح الأمة، وهذه الإضاءة الساطعة تبدد سحابة سوداء من الأوهام المتراكمة التي توهم أن الفقهاء في موقفهم هذا يدافعون عن الظالم، ويشرعون لظلمه، ويؤيدونه، ويقفون معه الخ. حين يأتي بعض الناس فيقف مع الظالم ويدعم ظلمه ويشرع لجرائمه ويشاركه في انتهاك حقوق الناس وفي التعدي على الحرمات، ثم يقول هذا هو موقف الفقهاء من التغلب فهو يكذب ويفتري ليستر سوأة جريرته، فما كان هذا الموقف الفقهي خوضٌ في حرمات الله، وما كان لهذا الكاذب المفتري أن يقول هذا إلا لأنه يعلم أن ثم من المعاصرين من لا يميز بين حرمة الخروج على الحاكم وبين الوقوف معه في ظلمه وطغيانه، وللأسف أن كثيراً من أهل التشويه هم من هذا الصنف، وقد قدموا لهم خدمة عظيمة حين نظروا إليهم نظرتهم إلى الفقهاء المتقدمين. ولك أن تستحضر هنا موقف أحد أشهر المواقف السلفية التي ينسب إليه القول بفقه التغلب وهو الإمام الجليل أحمد بن حنبل – رحمه الله ورضي عنه – وتنظر في علاقته بالسلطة في زمانه، وكيف أنه كان يرفض الدخول عليهم والعمل لهم وعطاياهم، بما هو في أصله من المباحات، فضلاً عن إقرارهم على أمرٍ محرم أو يتجاوز ذلك إلى مظالم وحقوق المسلمين. بل أصبح من المباحث الفقهية الشائعة: حكم الدخول على السلاطين وحكم العمل لهم وحكم أخذ عطاياهم الخ مما هو من المباحات، بل بعضها من الأعمال المشروعية كالقضاء ونحوه. إنما لكون الموقف الفقهي كان متحرزاً من أدنى ملابسة للظلم، ويريد أن يسد الذرائع التي توصل إليه أصبحت هذه المباحات محل بحث ونظر ونقاش فقهي لا يكاد تخلو منه مدونة فقهية، بما يكشف لنا حجم الجناية والبغي التي يخوض فيها من يفتري عليهم بأنهم أعوان للظلم وسدنة له! أزيد هذه النقطة إيضاحاً بالنقطة التالية: رابعاً: يتوهم الكثير أن القول بإقرار حكم المتغلب عند الفقهاء المتقدمين يعني أن الفقيه يقف مع الخارج الذي يقاتل الناس ويبحث عن أهوائه ومصالحه فيبرر له مظالمه ويمنع الناس من مقاومته ويسكتهم ويخوفهم حتى يتمكن من السلطة، فيكون قد اتخذ هذا الفقيه أداة للوصول إلى السلطة. هذه هي الصورة المرسومة في مخيلة كثير من الشباب، وهي مجافية تماماً للقول الفقهي، فرأي الفقهاء ليس في الوقوف مع المتغلب، إنما هم يتعاملون مع واقع حكمه بعد تمكنه وخضوع الناس ومبايعتهم له واستقرار الأمور بيده، ومن البداهة أن تمكنه يعني ان الناس قد بايعوا له وصار يوزع فيهم النفقات ويأخذ منهم الزكوات ويقيم فيهم الأحكام، فإن كان ثم خروج ورفض فهو من فئة قليلة جداً، وليس لها شوكة. فالخلل الناشئ عند كثير من المعاصرين من جهتين: الجهة الأولى: أنهم يتوهمون أن ثم أكثرية رافضة تريد الخروج والمقاتلة، وأن بيدها العدد والعدة والشوكة الظاهرة، إنما وقف الفقهاء في وجههم فحالوا بينهم وبين منع الظلم! بينما الحكم لا يكون متغلباً إلا بعد أن استقرت بيده أمور الأكثرية وخضع له عموم الناس، ولم يبق إلا قلة قليلة مهمشة لا تؤثر في سلطانه، وبناءً عليه فالخروج إن حصل فهو من أقلية ضد الأكثرية التي لا ترى الخروج، فالصورة الحقيقية حينها بحسب المنطق السياسي المعاصر هو أن ثم أقلية تريد فرض رؤيتها للعدل والحق ورفض الظلم على الأكثرية التي لا ترى ذلك. الجهة الثانية: انهم يتوهمون أن الفقيه كان هو السباق للبيعة والناس جاؤوا بعده تبعاً، والحقيقة أن الفقيه إنما بايع لما بايع الناس، وما قرر الفقيه أن المصلحة في البيعة وأن الخروج مفسدة إلا لما رأى عموم الناس قد خضعوا واستقرت الأمور، فبناء المصالح والمفاسد في المسألة مبني أساساً على أن الأمور مستقرة، ولم تستقر إلا ببيعة عموم الناس بغض النظر عن سبب بيعتهم، وهذا هو الموقف الفقهي فهو تابع لبيعة الناس وليس سابقاً عليها. ولهذا كان ابن عمر –رضي الله عنه وعن أبيه- وهو من أبرز الأعلام الذين يمثلون هذه المدرسة يقول: إن بايع الناس بايعت. ولما اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان أرسل إليه: قد بلغني أن المسلمين قد اجتمعوا على البيعة لك وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون. وقال ابن عباس وابن الحنفية – رضي الله عنهم- : لا، حتى يجتمع الناس على رجل. خامساً: والفقيه حين يقرر عدم الخروج فهو يراعي في الأساس مصالح الناس وحقوقهم، يريد أن يختار لهم ما هو أصلح لهم ويدفع عنهم ما يضرهم، فالموقف الفقهي هنا بحث عن مصالح الناس وسعي للحفاظ على حقوقهم. من البلادة عند كثير من الناس أن يقول هنا عن موقف الفقهاء أنه تقديم لمصلحة الحاكم على حقوق الناس! وأن الفقيه يفكر في الحاكم لا في المحكوم! وأن الحقوق هنا تراعي مصلحة الحاكم لا حقوق الشعب ! فالفقيه حين يقول المصلحة هنا أن لا تقاتلوا وأن تطيعوا في المعروف، هل يقول بهذا لكي يتمتع الحاكم بكرسي الحكم، ولئلا يزعجه أحد، وحتى يقضي أوقات سعيدة في حكمه! حاشاهم من هذا البغي المعاصر، بل موقفهم قائم لأجل حقوق الناس ومصالحهم أولاً وأخيراً. تأتي هنا قضية أن الفقيه قدم الامن على العدل، والاستقرار على الحرية. وتعجب من بعض المفاهيم الهزيلة كيف تروج بين النفوس بسبب انها ذات صياغة مناسبة للترويج الإعلامي. فالأمن والعدل، والحرية والاستقرار ليست مفاهيم متقابلة حتى يقارن بينها فيقدم شيء على شيء، بل لا يمكن قيام عدل بلا أمن، ولا حرية بلا استقرار، فطرح سؤال أيهما تقدم: حرية أم استقرار؟ عدل أم أمن؟ سؤال خاطئ من الأساس، فالأمن والاستقرار وعاء أساسي لا بد منه لأجل العدل والحرية. سادساً: جرت عادة كثير من مشوهي الموقف الفقهي أنه يقول: ليست الأمور بين خيارين إما قتال وفتن أو خضوع وانقياد. ما أجمل هذا الكلام، فهو وعي جيد بإشكالية التشويه التي يتعرض لها الموقف الفقهي، فأصبح يبحث عن الموضع الحقيقي الذي يستحق التشويه. غير أنه يستبطن أن موقف الفقهاء كان خضوعاً وانقياداً، فليس الإشكال لديه في تركهم للقتال وفي الإقرار بحكمه والطاعة بالمعروف، إنما في وصف إضافي آخر هو الخضوع والانقياد. هنا نريد أن نستفصل في مظاهر هذا الخضوع والانحراف؟ وهنا سنتفق أن ثم مواقف فقهية – خاصة في حالتنا المعاصرة- قد وقعت في أخطاء وأغلاط وانحرافات، فالنقد يكون لها، غير أن ذات الموقف الفقهي في التغلب لا يتحمل تبعة هذه الأخطاء، والتيار العريض من الفقهاء الذين سلكوا هذا الاتجاه لم يقعوا فيه، وقاعدتهم الفقهية لا تقره ولا تؤدي إليه. ويمكن ان نحصر الانحرافات في هذا الباب في جوانب عدة: 1-توسيع القول بحكم المتغلب ليشمل كل حاكم بغض النظر عن دينه وعن طبيعة حكمه وعن موقفه من الشريعة، فحتى لو عطل الشريعة وحارب شعائر الدين وأعلن الحرب عليها فهو حاكم شرعي تنزل عليها نصوص الفقهاء، بل بلغ الغلو والجهل ببعض المعاصرين أن حكم بمشروعية هذا الحاكم ولو جاء على ظهر دبابة المحتل الكافر! وهذا طبعاً مختلف تماماً عن منهج الفقهاء فهم يقررون المتغلب لمن كان مقيماً للشريعة محافظاً على حدودها قائماً بواجباتها، وإن وقع منهم ظلم وعدوان، إلا أن النظام بشكل عام نظام يحمي الشريعة ويصون الحرمات ويحفظ الحقوق. يتحدث بعض الناس هنا فيقول: وأي حفظ للشريعة بمن وصل إل الحكم بالسيف؟ ولو حكم بها لحكم بها على نفسه فتخلى عن الحكم ..الخ. وهي رؤية عاطفية شائعة تؤثر في بعض النفوس، وكأنها تقرر أن الحكم إما ان يحكم بالشريعة بشكل كامل كما حكم بها الخلفاء الراشدون أو لا يحكم بشيء، وهي مسلك إنما ينسجم مع العقلية الخارجية الغالية فترى أن تعطيل شيء من الشرع يعني تعطيل الشريعة كلها! كما أنه منافٍ للواقع، فمن قرأ تاريخ المسلمين عرف أن الحكام كانوا يقعون في مظالم، ويتوسعون في نهب الأموال، ويصدر من كثير منهم موبقات وكبائر وانحرافات، إنما تجد في نفس الوقت أن العدل كان قائماً، والجهاد مستمراً، والشعائر ظاهرة، والحقوق مكفولة، وللقضاء الشرعي العادل في زمانهم هيبة وسطوة وقوة. 2-ومن الانحرافات: الوقوف مع ظلم السلطة، وتبريره، أو التهوين منه، والبحث عن مخارج وتأويلات له، بما هو مشاركة في الظلم وإقرار له وإعانة عليه، وهو أمر محرم قطعاً في الشريعة، لا يمكن أن يصدر من أدنى متعلم فضلاً عن أحدٍ من فقهاء الإسلام الكبار. 3-تحريم الوسائل الحديثة التي هي من قبيل الأدوات التي تحفظ الحقوق وتصون الحرمات وتمنع المظالم بسبب أنه مخالف لقول الفقهاء في التغلب، وهذا قصور علمي ظاهر، فالوسائل لها احكام المقاصد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. 4-كما ضيقت وسائل الإصلاح والإنكار فما عاد ثم إلا مسلك واحد فقط هو النصيحة السرية، ولو أن هذا المسلك كان خياراً اجتهاداً مصلحياً لكان مقبولاً كخيار تقديري متعلق بالمصلحة والمفسدة، إنما زاد الأمر حتى أصبح أصلاً من أصول الإسلام ومنهجاً للسلف من خالفه فهو ضال مبتدع! 5-توسيع القول بالبغي ليتجاوز صورة (الخروج المسلح) التي نص عليها الفقهاء لتشمل كل من له موقف أو اجتهاد ينتقد فيه بعض أخطاء السلطة، بل وزاد الأمر فلم يقتصر الأمر على إلحاقهم بالبغاة، بل وتركت الشروط الفقهية المتعلقة بأحكام البغاة وكيفية التعامل معها، وتجاوزوا ذلك كله وقفزوا حتى ألحقوهم بالخوارج الفرقة العقدية المشهورة. فالبغاة الذين يخرجون بالسلاح يتفق الفقهاء جميعاً أنه لا يجوز التعرض لهم قبل إزالة مظلمتهم وكشف دعواهم، ونجد عند كثير من الفقهاء أنه يجب القتال مع الإمام إلا إن أبدوا ما يجوز لهم القتال كأن ظلمهم أو ظلم غيرهم ظلماً لا شبهة فيه بل يجب أن يعينوهم حتى ينصفهم ويرجع عن جوره. (انظر: شرح فتح القدير 5/336) بينما يقول بعض المعاصرين فيمن يتكلم ناصحاً بلسانه ما هو أشد بكثير مما يقوله الفقهاء فيمن يخرج بسلاحه! 6-كان الموقف الفقهي متعلقاً بعدم الخروج وقتال السلطة، فتحول عند عدد من المعاصرين إلى التطبيل والثناء الفارغ والتبجيل المحض بمناسبة وغير مناسبة، وامتحان الناس وتخوينهم، وجعل مواقف السلطة معياراً للولاء والبراء وصدق الانتماء إلى السنة او البدعة. 7-رفض الاختيار والشورى والرضا، والحكم بأنها أفكار وافدة متأثرة بالسياق الليبرالي والعلماني، وأن هذا مخالف لفقه السلف فيما يعرف بفقه التغلب. هذه أبرز الانحرافات المعاصرة التي ساهمت في تشويه موقف الفقهاء المتقدمين، لكنها من قبيل الانحرافات التي لا يتحملها فقهاء الإسلام، وليس لها علاقة بذات الموقف الفقهي من التغلب، وإذا كان خطأ بعض الناس في فهم النظرية يعني بطلانها فأظن أننا يجب أن نبطل كل شيء، فحتى الإسلام نفسه قد ارتكبت كثير من الانحرافات ونسبت إليه، بل حتى من ينتقد التغلب بسبب الحرية يعلم أنه قد ارتكبت فظائع شنيعة ونسبت إلى الحرية! فهل تتحمل النظرية التطبيقات المنحرفة التي تنتسب إليها؟ فسياقنا هنا ليس منعاً من نقد الأخطاء الفقهية –المعاصرة والتراثية- فهذا سلوك إيجابي صحي، ولا إشكال في نقد موقف أو فتيا أو رأي ما، إنما الخلل أن تعمم هذه الأخطاء على النظرية وهي لا تقر ذلك ولا تؤدي إليه، وأن يعمم على جمهور الفقهاء الذين كانوا متجنبين لمثل هذه الأغلاط. فالموقف الفقهي لا ينافي السعي للإصلاح قدر المستطاع وبما لا يترتب عليه مفسدة اعظم، ولا إلى إنكار المنكرات والمظالم والحيلولة دون وقوع المحرمات، بل وحتى التغيير باليد بضوابطه ليس منافياً لهذا القول الفقهي بإطلاق. قال ابن رجب : (جامع العلوم والحكم، لابن رجب 69): "التغيير باليد لا يستلزم القتال وقد نص على ذلك أحمد أيضا في رواية صالح فقال التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح فحينئذ جهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما فعلوه من المنكرات مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات اللهو التي لهم أو نحو ذلك أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك وكل ذلك جائز وليس هو من باب قتالهم ولا من الخروج عليهم الذي ورد النهي عنه فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتله الأمراء وحده وأما الخروج عليهم بالسيف فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء المسلمين). حين تصل بالبحث إلى هذه الجزئية سيظهر للعاقل حجم الجناية والبغي الذي مورس على الرأي الفقهي من قبل المشوهين المعاصرين، حتى شعر بعضهم بالحرج من شناعة هذا التشويه مع كون الرأي الفقهي لا يحمل كل هذه الشناعة، فصار يقول إن ثم فرق بين ترك القتال والطاعة لأجل المصلحة والمفسدة وبين أن تصبغ على هذا النظام المشروعية الدائمة؟ والحقيقة أنك حين ترفض القتال المسلح، وتريد الإصلاح للنظام بحسب المستطاع، وتقرر الطاعة في المعروف، فكون النظام بعد هذا أعطي مشروعية أو لم يعط مشروعية ليس بذي أثر كبير، فالثمرة العملية من المشروعية مقررة، فلا أثر كبير للخلاف في التسمية، اللهم إلا في مسائل محددة لا تتجاوز ربما ثلاث قضايا مؤثرة ، لكنها على كل حال تبقى هينة لا تستحق أن تجعل أحد القولين معتبراً والآخر كارثياً! يقال هنا عادة: أن القول بعدم الخروج يعني أنك تعطي صكاً مفتوحاً لأي خارج على الأمة أنه سيسمع له ويطاع بما يجرئهم عليه فتكون مشاركاً له. وهذا الاشكال يصور الخارج المقاتل وكأنه داخل لصالة الاختبار فهو يذاكر المقرر جيداً ليعرف كيف تأتي الأسئلة، وهي رؤية بعيدة جداً عن الفهم البسيط للواقع التاريخي للثورات والخروج المسلح، فالخارج يعرف أن وسيلته الوحيدة الفعالة هي القوة العسكرية، فيسعى لحشد ما يمكن، ويعرف أن الناس لن يخضعوا له بناءً على تقوى منهم أو قناعة عقلانية أو منطق فقهي، إنما سيخضعون له بالقوة والنفوذ. فسواءً قال الفقهاء حكمك باطل أو غير باطل، هو يعرف أساساً أن المؤثر ليس هذه الفتيا، وأن تأثيرها سيكون محدوداً وبإمكانه بكل سهولة أن يتجاوز تأثيرها إذا تمكن، ولهذا فالذي يحول دون الخروج على السلطة ليس أن تقرر أن سلطتكم غير معتبرة، بل أن تضع قوة تحول دون خروجهم، أما بدونها فأنت مثل من يقول إن السارق سيترك السرقة من المال العام والخاص لأن الفقهاء يقولون أن أخذك للمال غير مشروع! سابعاً: إذن، فقول الفقهاء في التغلب لا ينفي الإصلاح، ولا إنكار المنكرات، ولا الاستفادة من الأدوات الحديثة في سبيل قيام نظام حكم يحفظ الحقوق ويمنع المظالم. دوالملفت أن من يستهجن موقف الفقهاء من التغلب هم أنفسهم يقررون التغلب لكن بطريقة أخرى. فأكثرهم لا يرون الخروج المسلح لقتال الحكومات، ولا يرى التغيير بالقوة، بل ولديهم موقف عنيف من التيارات التي تسلك منهج التغيير بالقوة. فإذا كان يرفض التغيير بالقوة، ويرى الإصلاح بالأدوات الممكنة وبحسب المصلحة، فهو إذن يعيب الفقهاء السابقين على أيش؟ هذا هو ذات منطق فقه التغلب بقضه وقضيضه، فتعجب كيف يكيل الشخص أقسى الشتائم لذات الموقف الذي يرى أنه هو الموقف العقلاني. بل من الظريف أنه بعد الانقلاب العسكري في مصر، وبعد بداية اعلان المظاهرات والاعتصامات، وتوقع الكثير وقوع انشقاقات في الجيش أو احتراب داخلي كتب كثير -ممن كانوا يستخفون بنظرية التغلب-يطالبون المتظاهرين بالتعقل وموازنة الأمور والنظر في المصالح الكلية. أليس هذا هو فقه التغلب؟ طبعاً لا، بل هو أبعد منه بكثير، إذ سحب منطق التغلب إلى آخر نقطة مما لم يدر بخلد فقهيه. ما تفسير هذه الازدواجية؟ لماذا يتعامل الشخص مع واقعه بعقلانية فيراعي ميزان المصالح والمفاسد، ويتفهم الأمر بالواقع، في نفس الوقت الذي يعنف الفقهاء ويحتقرهم لأنهم أعملوا الميزان؟ أعتقد أن السبب يعود أن الشخص لا يدرك حجم المفاسد والمصالح في الأزمان السابقة، فلا يتفهم موقف من يراعي الدماء والأموال والأعراض، لأنه ينظر بشكل تجريدي كلي لا يستحضر مثل هذه التفصيلات، وأما في واقعه فهو مدرك له جيداً فيكون لها أثر في أحكامه وآرائه. ربما يقال إن الربيع العربي قد غير الموازين فأصبح ثم مطالبة بالتغيير لتلك النظم. حسناً، سنتجاوز الحديث عن كون الربيع العربي ليس له إلا سنوات قليلة فلا يصح الاعتماد عليه. حتى الآن لا أحد يطالب بالتغيير العسكري، وإنما تقتصر المطالبات بالتغيير السلمي، فثم إقرار بشرعية الدولة القائمة، كما أن التغيير للأنظمة لا يكون في بداية الحراك وإنما يكون في فترات لاحقة، فالمظاهرات السلمية الأولى لا تطالب بتغيير الأنظمة إنما تطالب بالإصلاح، هي إذن مستحضرة لميزان المصالح والمفاسد، حتى بعد ان تتطور المطالب فهي تطالب بتعديل شيء في الدولة لا إلغاء مؤسسات الدولة جميعاً، ولا تتجه للتغير الكلي إلا بعد الانتقال للعمل العسكري ، وهو معطى جديد غيّر الرؤية تماما، ولم يكن أحد قبل العمل العسكري يقول به. إذن، فذات المنطق الذي يعاب به الفقه السلفي هو نفسه المنطق الذي يعمل به من ينتقدهم من دون أن يشعر. ثامناً: أن الصورة الذهنية السائدة عند كثير من المعاصرين عن حكم التغلب في التاريخ الإسلامي أن الناس كانوا يعيشون في ظل أنظمة طاغية مستبدة قهرت الناس، وأن رؤيتهم للخلاص كانت واضحة جداً هي في الخروج عليها وإقامة أنظمة بديلة، غير أن القول الفقهي بمنع الخروج قد كرس هذا الواقع المنحرف فما عاد ثم إمكانية لإصلاحه بسبب الخلل الفكري الذي صار يحارب أي جهد للإصلاح، بل وجد من الحكام من هو صالح فاضل لكن لم يستطع أن يقيم نظاماً شرعياً بديلاً بسبب الفقهاء لم يخدموه! قد تختلف الصياغة لكن هذا هو فحوى كثير مما يكتب في نقد الموقف الفقهي. حسناً، هل كان الوضع في التاريخ بهذه الكيفية؟ هل الثورات توقفت بسبب الموقف الفقهي؟ التاريخ يقول لا، بل حركة الثورات والخروج المسلح كانت حركة دائمة مستمرة لم تتوقف، وما أن تقف في بلد حتى تشتعل في بلد آخر، وقامت على إثرها دول وسقطت دول، ولا يكاد يمر حكم سلطان من سلاطين أي دولة في التاريخ الإسلامي من دون أن يقع في عهده حوادث عصيان مسلح وثورات متلاحقة، منها ثورات نجحت فأقامت دولاً، ومنها من نجح جزئياً، ومنها من فشل. وجميعها باختلاف أحوالها ونتائجها وأهدافها لم تغير من واقع التغلب شيئاً، فهي تستبدل نظام تغلب بنظام تغلب آخر مثله أو أحسن منه أو أسوء، المهم أن التغلب هو السائد، وعليه فالرؤية التي توهم أن الناس كانوا ساكنين بفعل الموقف الفقهي وأنهم لو خرجوا لأنهوا عهد الظلم والقهر ودخلوا في ربيع الحرية والسعادة رؤية حالمة ترسم شيئاً لا علاقة له بما كان يجري في التاريخ. ولهذا فكل الحركات المعارضة تخلت تدريجياً عن رؤيتها للخروج والقتال، فالخوراج وهم أشد الفرق شجاعة ويقيناً بأفكارها وصلابة في مواقفها تفككت تدريجياً فما بقي منهم إلا الإباضية ولا تحمل هي الان من هذا الفكر شيئاً يذكر، والمعتزلة الذين كانوا يرون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصولهم العقدية الكبرى تراخوا كثيراً فدخلت في مضامينهم العقدية موازين المصالح والمفاسد، وهو نتاج طبيعي لإدراك يقيني قطعي لميزان مفاسد ومصالح لا يختلف عليه عاقل، وهو ما لا يريد أن يفهمه كثير من المعاصرين الذين يحملون التاريخ حالة سخطهم ويأسهم من إصلاح واقعهم! حين تستحضر هذا المعنى التاريخي الظاهر الممتد خلال عشرات القرون من عشرات الحكومات في مشارق الأرض ومغاربها تبدو لك سذاجة الفكرة التي تحمل الفقهاء تبعة التفريط في كتابة رؤية فقهية متكاملة لشكل الدولة، وأن غياب هذا التصور الفقهي كان سبباً في ترسيخ التغلب وتمدده وتعمقه، وكأن الاشكالية في أن الناس ينقصهم معلومات لم ينجح الفقهاء في كتابتها لهم! مما ترسمه هذه الرؤية الحالمة ولا يعرفه التاريخ أنها تتوهم عهود التمكن والاستقرار للأنظمة السابقة عهود قهر وتسلط على الإنسان لن يزول إلا بالخروج عليها، بينما واقع التاريخ يشهد أن الحرية والعدل والحقوق كانت في أحسن درجاتها في عهود الاستقرار والتمكن وثبات الدول، وأن أقسى حالات الظلم والطغيان وانهاك الحقوق وقعت في حالات الخروج والثورات والاقتتال والانتقال بين أنظمة الدول. وهي قضية بدهية لا تخفى على أدنى قراءة في التاريخ الإسلامي، ومن يعي هذه النتيجة سيكون متفهماً للموقف الفقهي وواعياً بأثره على حفظ الحقوق وصيانة حرياتهم، اما من يرسم الصورة الحالمة فهو يتوهم أناساً مكبلين في القيود يذوقون مرارة الذل والهوان وليس بينهم وبين الانطلاق والنجاة سوى فتوى عالم وقفت سداً بينهم وبين الحرية! فمن الطبيعي حينها أن يشعر بحالة احتقان وغضب شديد من تلك المدرسة الفقهية الظالمة، التي أوجدها طبعاً في رأسه! سآتي للموضوع من زاوية أخرى: ما حال الناس في ظل الدولة العباسية مثلاً مع النظام الذي يحكمهم؟ هل الصورة في أذهانهم صورة نظام مستبد يريدون التخلص منه ويبحثون عن أي نظام آخر يخلصهم منه لولا أن سيف الرأي الفقهي لهم بالمرصاد فما جعلهم قادرين على الخروج منه؟ حين نتجاوز أول نشوء الدولة، فلن يشك قارئ لتلك المرحلة أن للدولة العباسية مشروعية عميقة في نفوس الناس، وأن المشروعية بلغت في رسوخها ما جعل الحكومات المسيطرة على الدولة والتي تمكنت في جعل خلفاء بني العباس في مقام (الصورة) و (الهيكل) لم تتجرأ على إنهاء الدولة تماماً، لسبب بسيط هو خوفاً من نفور الناس بسبب أن الخلافة لها عمق كبير في نفوسهم، حتى إن الخارج على الدولة في المشرق او المغرب يسيطر على المدينة ثم يكون أول صنيع يقوم به هو أن يخطب لبني العباس على منابرها، وهو إجراء شكلي لا أثر له سوى أن يطمئن الناس أنه تابع للدولة لا خارج عنها. وهو مؤشر يقيس لك وزن الدولة في نفوس الناس، وهو موقف طبيعي من الناس لأنهم ينظرون إلى أن بقائها أحفظ لحقوقهم من زوالها وتقطّع بلادهم بين ثائر هنا وهناك. هل هذا يعني نفي (الظلم) و (الطغيان) و (انتهاك الحقوق) الخ. طبعاً لا، وأريد من القارئ أن يحافظ معي على تماسك الفكرة، فالقضية هنا ليست في إثبات هذه المظالم أو نفيها، إنما في إثبات أن كثيراً من المعاصرين يتصور الواقع التاريخي بشكل مختلف تماماً، ثم يحاكم الرأي الفقهي من بعده بشكل يشعرك بشناعة وقبح لا تحتمل، فحين ترسم المشهد كما هو وتقرأ التاريخ كما كان فإنك ستقرأ الرأي الفقهي بشكل موضوعي بعيداً عن أثر هذه الرسوم المشوهة. يأتي هنا سؤال مشروع، يقول: إن الأمور الآن تغيرت وأصبح ثم تطوراً في أساليب الحكم، وما كان مستحيلاً في السابق أصبح ممكناً الآن .. الخ. جميل جداً، وهذا ما أريد الوصول إليه، أن يكون النظر والمنطلق في الواقع وإمكانياته، وتبحث في أدواته، وتحاكم الآراء والنتائج المعاصرة بناءً عليه، وسيكون النظر حينها نظراً موضوعياً معتدلاً، فلا نسقط على المتقدمين إخفاقات المعاصرين! تاسعاً: إن الصورة الحالمة المشوهة توهم الغارق فيها وكأن نظام التغلب كان حالة نشاز مرفوضة، وأن ثم أنظمة للشورى والاختيار جاهزة متوفرة وقف الفقهاء دون تحول الأمة إليها، وأن الأمور كانت متيسرة لولا الفقهاء، ومن الطبيعي بعدها أن يحمل في قلبه غلاً عظيماً على هذا المتسبب. وحين نتخلص من حدود هذه الخارطة المرسومة ونستقرئ التاريخ نجد أن التغلب كان نظاماً سائداً عاما في بلاد الإسلام وفي غيرها، وأن الأمور بعد العصور الأولى لدولة الإسلام أصبحت ملكاً عضوضاً ينتقل من ملك إلى ملك، ومن حكم متغلب إلى حكم متغلب، وحينها فالفقيه ينظر في واقع معين فيتخذ الموقف بناءً عليه لا يتخيل صورة حالمة فيجتهد بناءً عليها. فالواقع أن حكم المتغلب لن يزول إلا بحكم متغلب مثله، قد يكون خيراً أو شراً منه، فأيهما أقرب للعقل والعدل ولحفظ حقوق الناس أن نتقلب بين أنظمة متغلبة وتضيع فيما بينها الدماء والحقوق، أم أن نستقر على حكم واحد وتسعى في إصلاحه بقدر ما نستطيع؟ استمر التغلب قروناً متطاولة، في أصقاع مختلفة، وسقطت دول على إثر دول، وما تغير نظام التغلب أبداً، ما سبب هذا؟ هل لأن الفقه وقف حجرة عثرة أمام الطريق؟ هل لأن الفقهاء لم يقدموا للأمة مشاريع فقهية تحدد لهم شكل دولةٍ تقوم على الشورى والعدل والتداول السلمي للسلطة؟ هل ذلك راجع لقصور فقهي لم يستطع أن يقدم للأمة حلولاً لهذه المشكلة السياسية؟ إذا كان عمر بن عبد العزيز – وهو عمر بن عبد العزيز- في كمال عدله وورعه، وفي تقصيه الشديد لمرضاة الله، وكان خليفة للمسلمين جميعاً، وجاء حكمه في وقت قوة الدولة وتمكنها وخضوع الناس لها، وكان له من التمكن والسيطرة ما لا يخفى، حتى توقفت ثورة الخوراج في زمانه فما عاد ثم من يعترض على سياسته، لم يستطع -رحمه الله- أن يغير شكل الدولة فيعيدها شورى، بل لم يستطيع حتى أن يتخذ قرار تغيير ولي العهد من بعده وهو يزيد بن عبد الملك فيعهدها إلى غيره، وكان يقول رحمه الله عن القاسم بن محمد (تاريخ ابن عساكر 49/178): "لو ان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة". قبل الختام: إن الهدف من هذا المقال كله هو عرض الموقف الفقهي الذي سلكه كثير من فقهاء الإسلام، وتفسير سياقاته الشرعية والتاريخية، وحين يفهم الموقف كما هو فإن هذا يبدد عامة الأوهام والخيالات التي نسجتها حالة التجني والبغي المعاصرة، يظهر من خلالها أن هذا الموقف الفقهي موقف عقلاني عميق، مراعٍ لمصالح الأمة، مستحضر للدلائل الشرعية، وأن أكثر النقد المعاصر له هو نقد لحالة موجودة في أذهانهم لا تعبر عن حقيقة الموقف الفقهي، ففهم الموقف الفقهي كما هو كافٍ لكشف حالة التشويه، ولكشف حالة الغلو والزيادة التي تتدرع بها. إن المظالم والانحرافات والانتهاكات الحقوقية المعاصرة ليست ناتجة من رأي فقهي، ولا معتمداً على مدرسة تراثية حتى يتوهم أحد أن الحل يكون بإصلاح مكمن الخلل حتى يسقط الفساد على رأسه، فالإصلاح ينطلق من الواقع، ومن البحث في مجالاته وعوائقه وتحدياته، وحين ينطلق الشخص منها سيدرك حجم أثر الرأي الفقهي وسيضعه في مكانه الطبيعي وستخف حركة التسويق الإعلامي للتشويه. أما حين يترك الشخص ذلك كله، ويرحل بعيداً فينزل (حنقه) و (غضبه) على التاريخ الذي جاء له بهذه الإشكالات، ويهاجم الفقهاء الذين أرسلوا له مصائب هذا الواقع، فهو استسلام للمشكلة وهروب من الحل وضعف عن مواجهة الحقيقة، ويبقى أن متطلبات الإصلاح ثقيلة، ولهذا من الطبيعي أن تحرف مسار الكثير ليعكس الطريق فيجعل مسار الإصلاح يبدأ من (الإصلاح الفكري والشرعي والديني والتاريخي والعقدي والثقافي ..) إلى آخر كل ما هو خارج عن محل الإشكال.